أفق نيوز
الخبر بلا حدود

مساهمة في النقاش التحليلي حول (إشكاليات تحريف الأديان السماوية) (1) .. بقلم/ أحمد الحبيشي

255

أفق نيوز | كتابات

مقدِّمة لا بدّ منها:
تابعت في الأيام الأخيرة مناقشات يمنية ساخنة على منصات التواصل الاجتماعي حول قضية تحريف الأديان السماوية شارك فيها بعض الكتاب اليمنيين من الجنسين ، لكن تلك المناقشات والمقاربات أغفلت إشكاليات العلاقة بين الدين والنظام الملكي الكهنوتي في العصور القديمة والوسطى ، وما تركته تلك العلاقة الملتبسة بالاستبداد على شكل ومضمون الدولة التي ينبغي أن تتوزع سلطة الحكم فيها بين مؤسسات دولة (أولي الأمر) الذين أمرهم شورى بينهم ، وهي دولة تختلف عن نظام (ولي الأمر) الذي لا مكان فيه للشورى، حيث تكون السلطة مطلقة ومشخصنة ومختزلة في شخص الحاكم وعائلته وعشيرته ، فيما يكون واجب المواطنين هو مبايعته جبرًا وطاعته مطلقـا وعدم معارضته علنا والصبر على ظلمه كرها ، حتى وإن جلد ظهورهم وأخذ أموالهم.
وعندما قررت المساهمة في هذا النقاش بعيداً عن الادعاء باحتكار الحقيقة التي لا يعلمها إلا الله العليم الخبير ، رأيتُ أن أبدأ بعد هذه المقدمة الضرورية بمقاربة ما تيسّر عن دور ملوك بني اسرائيل ولاهوت التلمود والأسفار والرسائل ، وفقه المُلك العائلي الوراثي العضوض والفكر الصهيوني الإنجيلي الاستعماري ، في تحريف اليهودية والمسيحية والاسلام ، واختزال الأديان السماوية ــ كلها وبدون استثناء ــ في بضعة مذاهب دينية طائفية وضعية صُنعت في الأرض ولم تنزل من رب السماء.
ومن أجل إدراك القيمة التاريخية لمشروع بناء الدولة اليمنية الحديثة ، يتعين علينا التعرف على مفهوم الدولة الوطنية والسياق التاريخي الذي افرز ضرورتها وشروطها.
وبوسعنا القول: إن بعض السلفيين الذين يدعون إلى إعادة إنتاج الشكل الاستبدادي الامبراطوري للدولة القديمة العابرة للحدود والقوميات والاثنيات في العصور الوسطى، يتجاهلون الحقيقة التي اكتشفها المؤرخ العربي ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن نشوء وتطور وانهيار الدول التي تقوم على العصبية والغلبة وقوة الشوكة.. كما أنهم يتجاهلون أيضاً ما يجب أن نتعلمه لدى قراءة وتحليل تاريخ البشرية من دروس ومعارف ، حيث كانت توجد مجتمعات بدون دولة وتخضع لسلطة زعماء القبائل والعشائر، ومجتمعات بدون لغة مكتوبة تدون ثقافتها وأسلوب حياتها، ناهيك عن أن ثمة مجتمعات أخرى كانت ترفض الانضواء تحت سلطة دولة مركزية واحدة، بسبب النزاعات القبلية والعشائرية في داخلها ، ومع ذلك انقرضت وتغيرت مختلف هذه الدول والمجتمعات التي سادت في عصور ما قبل الإقطاع في آسيا وأوروبا وأفريقيا وغرب الكرة الارضية.
ويُعلمنا التاريخ أيضا أن ثمة مجتمعات بشرية خضعت لدول إمبراطورية بالقوة، في سياق التوسع الامبراطوري عن طريق الغزو العسكري، وكانت السلطة التي تحكم تلك المجتمعات والدول هي سلطة القوة والغلبة التي تفرض نفسها بفعل النصر العسكري لعصبية معينة بغطاء ديني أو مذهبي ، وترسخ بالتالي هيمنة ملوك الطوائف والعصبيات الغازية بحسب مقدمة ابن خلدون .
وكان يتعين على هذه المجتمعات التي كانت تحكمها دولٌ إمبراطورية قوية أن تدفع للدولة الغازية خراجا ثقيلا، يتم اقتطاعه من منتوج زراعي أو حرفي ضعيف عموما، وأن يفقد بعض سكانها حريتهم بسبب حروب التوسع التي تحيل الرجال المهزومين إلى عبيد للانتفاع بعملهم، كما تحيل نساءهم إلى سبايا للمتاجرة بهن في أسواق النخاسة بهدف الاستمتاع الجنسي .
والحال أن الخطاب السلفي العام يتجاهل المسافة التاريخية الواسعة بين الدولة الوطنية الحديثة في عصرنا ، وبين الدولة الإمبراطورية التي كانت توطد سلطتها بالقوة العسكرية داخليا وخارجيا، ثم تفرض على الذين يخضعون لسلطتها المطلقة طاعة الحاكم ودفع الخراج والضرائب بهدف توفير الموارد المالية لضمان تسيير جهاز الدولة الذي كان ينحصر في الأسر الملكية الحاكمة وأمراء الجيش والجواسيس ورجال الدين والقضاة، وجبأة الخراج والضرائب والزكوات والجزيات ، بعيدا عن أي التزام بالتنمية ومكافحة مخرجات الفقر والمرض والجهل والأمية والكوارث الطبيعية والحروب.
وبوسعنا القول: إن ما كان يميز الدول الإمبراطورية في عصر الإقطاع واقتصاد الخراج عن الدولة الحديثة في عصر الثورة الصناعية واقتصاد السوق ، هو أن الدولة الحديثة تنزع إلى الانتشار العالمي بواسطة مفاعيل الحضارة الحديثة والعلاقات الدولية والمصالح الاقتصادية المشتركة للعالم المعاصر، وثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات ، وليس عن طريق الغزو كما كان في العصور القديمة ، أو الاستعمار على نحو ما فعلته في العصر الحديث بضعة أوليغارشيات مالية وعسكرية ملكيّة اغتصبت الحكم في بعض الدول القومية الأوروبية ، ثم حاولت ــ بشكل استثنائي ــ إعادة إنتاج بعض سمات ماضيها الامبراطوري الذي ثارت عليه وتحررت منه . وهو ما سنأتي إليه في حلقة قادمة سنتناول فيها نشوء الفكر القومي العربي الذي يعاديه الخطاب السلفي الماضوي ويعتبره جزءا من مخطط علماني صليبي ، ويدعو الأحزاب التي حملت لواء الكفاح الوطني والقومي ضد الاستعمار ومن أجل الحرية والاستقلال والوحدة العربية إلى التوبة والدخول في الإسلام من جديد.
وحين تنزع الدولة الوطنية الحديثة نحو الانتشار العالمي بواسطة انخراطها في منظومات دولية معاصرة ، وليس بواسطة التوسُّع الإمبراطوري لدولة دينية واحدة ، فإنها تنزع بالضرورة إلى التمسك بالاستقلال والسيادة على أراضيها وحماية أمن مواطنيها، مقابل تسيير المجتمع وتنمية موارده وتطوير معيشته، وتوسيع مشاركته في إدارة شؤونه وتقرير مصائره.
أما الشكل السياسي لنظام الحكم في الدولة الوطنية الحديثة فإنه يترسخ ويتطور بمقدار قيام الدولة بمهمة تحقيق العدالة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية لشعبها، وتجنيب مواطنيها مخاطر السياسات العدوانية والانعزالية التي تنتهجها على مستوى علاقاتها بالدول الأخرى..
ولا تستطيع الدولة الوطنية الحديثة إنجاز هذه المهام بدون تخصيص جزء من موارد المجتمع لتسيير أموره وتدبير احتياجاته العامة، وتوظيف جزء آخر من موارده لتنمية قدراته وتلبية تطلعات واحتياجات الاجيال الجديدة والقادمة، الأمر الذي يتطلب توزيع السلطة والثروة بين جميع مكونات الدولة والنظام السياسي والمجتمع المدني، وهو ما لم يكن موجودًا في الدول الإمبراطورية التي يحاول الخطاب السياسي السلفي إحياءها ، و إعادة عقارب التاريخ إلى عصر الإقطاع واقتصاد الخراج الذي انتهت بنهايته تلك الدول الامبراطورية ، بعد بزوغ شمس عصر الثورة الصناعية واقتصاد السوق، وانتقال الحضارة البشرية إلى طور جديد بفعل تعاظم منجزات العلوم التطبيقية ، وتزايد الاكتشافات العلمية والجغرافية ، وانتشار أفكار الحرية والعدالة والمساواة التي كان من أبرز نتائجها ظهور المجتمع الدولي الحديث ، والتزام كافة دول العالم الذي تنخرط فيه بالمواثيق الدولية التي أسهمت في تصفية الاستعمار واحترام استقلال وسيادة الدول على أراضيها وحدودها البرية والبحرية والجوية، وتحريم العبودية وإعادة الاعتبار لحقوق المرأة والطفل ، وإدانة جرائم الحرب ضد المدنيين والأسرى وملاحقة ومحاكمة مرتكبيها ، وبلورة معايير دولية لحقوق الإنسان ، والتزام كافة الدول الحديثة بمبادئ القانون الدولي الجنائي والإنساني .
ولئن كان أبرز ما يُميز عصر الإقطاع هو اعتماد نظام الإنتاج والتبادل والتوزيع على منظومة من العمليات الاقتصادية التي لا تتدخل فيها آليات السوق، حيث الأسعار ثابتة، وفائض الإنتاج محدود، فيما يتم التبادل الخارجي إما بالمقايضة أو بالذهب والفضة على أساس أسعار ثابتة أيضا، فإن أهم ما كان يميز الدولة في عصر الإقطاع هو شكلها الإمبراطوري الاستبدادي التوسعي، حيث كانت النظم الإمبراطورية في العصور الوسطى تشكل إطارا جامعا لعدد من الدويلات والأقاليم والكيانات المحلية التي يحكمها في الغالب ملوك الطوائف وشيوخ العشائر وملاك الأراضي وتجار النخاسة وأمراء الجيوش ورجال الدين.
كان الخضوع ودفع الخراج هما شكل العلاقة رأسيا وأفقيا بين كل المحكومين وحكام الدويلات والأقاليم والكيانات الإقطاعية المحلية من جهة، وبين حكام هذه الدويلات والأقاليم والكيانات والحاكم الأعلى للدولة الإمبراطورية الجامعة لها من جهة أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار أن حكام الدول الإمبراطورية في التاريخ اليهودي والمسيحي والإسلامي ، كانوا في الغالب ملوكا أو سلاطين أو أباطرة ينحدرون من أسر وسلالات معينة ، فيما تولى رجال الدين صياغة الأسس الفقهية واللاهوتية لإضفاء الشرعية الدينية عليها.
كانت الدولة الإمبراطورية في عصر الإقطاع واقتصاد الخراج تمثل نظاماً تراتبياً للسلطة ، ولم يكن هذا النظام يعرف المفهوم الحديث للسيادة الوطنية على الأراضي التي تتكوّن منها الدولة ، لأنّ العَــلاقة بين الشيخ الإقطاعي ورعايــاه كانت تقــوم على الولاء والطاعة والخدمــة والحــمايــة. وبسبب هذا الوضع التراتبي لم تكن هناك حدود للدولة ، بل إقطاعيات منقسمة ومنكفئة على نفسها ، فيما كان التنافس والصراع الداخلي على الثروة والقوة والأمن يستدعي فرض الاستحكامات القديمة والحواجز والأسوار والأبراج المحصنة حول المدن والأقاليم. وعندما يشتد خطر التنافس الداخلي كان الأمر يستدعي الاحتكام إلى ملوك وأباطرة الدولة الإمبراطورية الجامعة.
لهذه الأسباب لم تعرف الدولة الإمبراطورية في عصر الإقطاع ما يُعرف اليوم بالسلطة السيادية لرؤساء الدول في عصرنا الحديث، ونظام الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ، إذْ كانت وحدة السلطة هي الشكل الرئيسي للحكم المطلق، وكانت وحدة السلطة متسمة بشكل عمودي كسلطة واحدة في عصور ما قبل الرأسمالية بين مركز الدولة الإمبراطورية وبين الدويلات والكيانات الإقطاعية المتشرذمة في داخلها.
ومع ظهور الرأسمالية واقتصاد السوق واكتشاف البخار والكهرباء وتوسُّع الكشوفات الجغرافية وانطلاق الثورة الصناعية والتكنولوجية، واتساع النطاق الكوني للتجارة واختراع وصناعة الأسلحة الحديثة المتطورة، برزت حاجة الدول لأشكال متطورة من الاقتصاد والأمن ، والمزيد من الموارد بهدف زيادة تراكم الثروة وتنمية قدراتها الاقتصادية والمالية والتجارية والعسكرية، وتأمين حدودها من خطر التحديات الخارجية والحروب الحديثة ، الأمر الذي ارتبط بالتحول نحو بناء الدولة ذات السيادة المطلقة على كل أراضيها ومياهها وأجوائها، والسعي لتأمين هذه السيادة من خطر التوسع الاقتصادي الخارجي الذي كان يؤدي إلى قيام دولةٍ ما، بغزو وابتلاع أراضي دولة أخرى. وقد ترتب على ذلك ظهور الحاجة إلى منظومة سياسية داخلية تلبي هذه الاحتياجات الجديدة، إلى جانب منظومات جديدة للعلاقات الاقليمية والدولية ونظام عالمي جامع للدول.
كانت الفتوحات الدينية والتوسعات الإمبراطورية في العصور الوسطى لا تعرف مبدأ السيادة، حيث لا تعني تلك الفتوحات والتوسعات خرقاً واعتداءً على سيادة معترف بها دولياً كما هو متعارف عليه في عصرنا الراهن، ولذلك أدى ظهور الدولة الوطنية والسوق الرأسمالية العالمية في العصر الحديث إلى نشوء الحاجة لتنظيم العَلاقات بين الدول وصياغة أسس القانون الدولي الحديث، حيث لم تعد سيادة الدولة على حدود أراضيها أو أقاليمها مجرد قرار يستند إلى شرعية دينية أو تاريخية أو تراتبية أو عرقية أو أثنية، بل أضحت نظاماً قائماً على الاعتراف المتبادل بين الدول ضمن أطر وأنماط منظومة جديدة للعَلاقات الدولية، كما نشأت الحاجة للدبلوماسية المعاصرة، بعد ان أصبحت الدول تتبادل فيما بينها ممثلين وبعثات عنها بهدف تنظيم عَلاقاتها السياسية والاقتصادية والتجارية والأمنية .
وبعد تأسيس الأمم المتحدة أصبح انضمام الدول إلى هذه المنظمة الدولية معياراً للاعتراف بالسيادة والاستقلال ، فيما أدى تطور الثورة العلمية والتكنولوجية إلى توسيع دائرة المصالح الاقتصادية المشتركة والمنافع المتبادلة، حيث لم يعد بمقدور أي دولة من دول العالم أن تتطور بمعزلٍ عن الاقتصاد العالمي وشبكة المعاملات المصرفية الدولية ، وبعيداً عن حاجة كافة الأمم والشعوب لقيم سياسية وإنسانية عالمية مشتركة يصاغ على أساسها النظام الاقتصادي العالمي ، الأمر الذي أسهم في تعميق العَلاقة البنيوية بين السياسة والاقتصاد والثقافة والأمن، وإكساب وظائف الدولة أبعاداً سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وبوسعنا قراءة التحديات التي واجهت هذا المسار ، من خلال مقاربة مشروع بناء الدولة اليمنية الحديثة التي يتطلع اليها كل الوطنيين اليمنيين بمختلف مكوناتهم السياسية والفكرية والثقافية.
والثابت أن المذاهب الدينية هي طريقة تفكير وسلوك لمن يؤمن بطقوسها ومعتقداتها ، وهي بالإضافة الى ذلك مذاهب وضعية من صنع البشر على الارض ولم تنزل من السماء، ناهيك عن أنها تأثرت بموروث البيئات التاريخية والاجتماعية عبر مختلف عصور التاريخ البشري، بما فيه التاريخ الوثني واليهودي والمسيحي والإسلامي على نحو ما سنتناوله بكل وضوح وصراحة في الحلقات القادمة يوميا اعتبارا من يوم غد.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com