الخائن “عفاش” وأسرته.. “ثقب أسود” ابتلع مليارات الدولارات من قوت المواطن
في ميزان كل أمة لا جريمة أشنع من الخيانة، ولا خطر يضاهي خطر المتآمرين على الوطن من داخله. فالخائن ليس خصمًا شريفًا، بل طاعون داخلي يسعى من خلف الظهر، ويغرس خنجره في خاصرة وطنه وهو يبتسم. ولهذا كانت الخيانة في كل دساتير العالم، وفي قوانين الشرف والرجولة، وفي أحكام الدين والتاريخ، أقسى جريمة، وأبشع سلوك، وأخطر فعل.
في هذه الأيام، وفيما اليمن يسطر أروع ملاحم البطولة في معركته المقدسة ضد العدو الإسرائيلي انتصارا للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وبعد أن فشل العدو الأمريكي الإسرائيلي في إيقاف الإسناد اليمني، لجأ إلى إعادة تفعيل خونة الداخل، يتصدرهم أبناء الخائن الهالك علي عبدالله صالح عفاش، لمحاولة زعزعة الاستقرار الداخلي، وإشغال القوات المسلحة عن إسناد غزة، ولكن كما فشلوا سابقا حين تمكن الشعب من اقتلاعهم ورميهم في مزابل التاريخ، فإن الشعب قادر على وأد كل فتنة يخططون لها.
في التقرير التالي نذكر بعض الحقائق التي تكشف مدى ما اقترفته تلك الأسرة بحق الشعب اليمني طيلة 33 عاما:
منذ الأيام الأولى لتولي الخائن علي عفاش السلطة، لم يكن مهتماً ببناء دولة قوية، بل كان جل اهتمامه مُنصبَّاً على إحكام قبضته، وتدمير أي نواة لمشروع وطني حقيقي. ولهذا، كانت الاضطرابات الأمنية تُصنع وتُدار بعناية، من حروب المناطق الوسطى إلى حرب الجنوب، ومن حروب صعدة إلى قمع الحراك الجنوبي، وصولاً إلى خلق وتغذية التيارات التكفيرية والادعاء بمحاربتها. كل هذه الأحداث لم تكن سوى أداة في يد نظام “عفاش” لجعل الدولة مسخرة لخدمة الرئيس وعصابته، لا لخدمة الشعب.
ولأن هذه الجرائم لم تكن كافية لإقناع البعض بفشل هذا النظام، الذي لا يتقن سوى فنون اختلاق الأزمات وإدارتها واستثمارها، أو كما سماها هو “سياسة الرقص على رؤوس الثعابين”، فقد اخترنا أن نغوص في الجانب الأعمق والأخطر من خفايا هذا النظام: جانب الفساد والنهب والمحسوبية وتدمير مؤسسات الدولة. لقد تمكن “عفاش” من تكوين ثروة طائلة من قوت الشعب الكادح، وظل يراكمها على مدى سنوات حكمه المظلمة.
وفقاً لتقارير دولية موثوقة، منها دراسة للمعهد الملكي البريطاني صدرت في عام 2010 “، حُوّلت الدولة اليمنية إلى “ثقب أسود” ابتلع مليارات الدولارات من أموال الشعب. الأرقام الصادمة تُشير إلى اختلاس ما يقارب 30 مليار دولار من إيرادات النفط خلال الفترة الممتدة من 1990 إلى 2011، فقط، وما خفي كان أعظم، وما سبق فودائع في بنوك الخليج وأوروبا وأمريكا وغيرها. هذه المبالغ الضخمة، التي كان من المفترض أن تُسهم في بناء بنية تحتية قوية، وتحسين الخدمات الأساسية في قطاعات الصحة والتعليم، تبخرت في جيوب عائلة “صالح” ومقربيه، بينما كانت البلاد تغرق في مستنقع الفقر والبطالة الذي ارتفعت نسبته إلى 65% خلال تلك الفترة.
تُفصّل التقارير كيف استغل علي صالح عفاش -شخصياً- سلطته للسيطرة على عقود النفط والغاز، ومنح حصصاً من الوقود المدعوم لأقاربه ليقوموا ببيعه في الأسواق الدولية، مستفيدين من فروقات الأسعار. لم يكتفِ بذلك، بل أنشأ ابنه أحمد شركة “ذكوان للبترول والخدمات المعدنية” التي احتكرت استيراد وتوزيع المشتقات النفطية، ودفعت الدولة فروقات الأسعار، ما كبّد الخزينة العامة خسائر بمليارات الدولارات. لم تكن هذه عمليات فساد فردية، وإنما حلقة في مسلسلات نهب منظومة محكمة، استخدمت وثائق استيراد مزورة لوقود غير موجود، للحصول على إعانات حكومية، وتهريب الوقود المدعوم للبيع في الخارج.
في خضم هذا النهب المنظم، كانت عائلة “عفاش” ومقربوها يركزون استثماراتهم خارج اليمن. تُشير التقارير إلى أنهم حوّلوا ثرواتهم المنهوبة إلى دول مثل الإمارات ومصر وبعض دول أوروبا، حيث اشتروا عقارات وفنادق وشركات، في حين لم تُسجّل أي استثمارات محلية ذات قيمة تُذكر تُعزز التنمية في اليمن. هذا النمط من السلوك لم يكن عرضياً، بل كان جزءاً من استراتيجية ممنهجة لإضعاف الدولة وإفقار الشعب.
وكشفت الدراسات أن إفقار الشعب اليمني لم يكن نتيجة طبيعية للفساد، بل كان عملاً سياسياً متعمدا، الفساد ما هو إلا احد سياسات خططه التنفيذية. حرص نظام صالح على إبقاء اليمنيين في حالة فقر تلهيهم بالبحث عن أبسط مقومات الحياة. هذه الحالة من الوهن كانت وسيلة لتعميق سيطرته وتثبيت نفوذ شبكة من الأعوان القبلية والسياسية التي اختارها بعناية لتولي مفاصل القرار. حتى أن التعيينات في المناصب الحكومية والعسكرية والدبلوماسية كانت تتم وفقاً لهذه الشبكة، وليس على أساس الكفاءة، ما أدى إلى تآكل مؤسسات الدولة.
لم يقتصر التدمير على الجانب المالي، بل امتد إلى صميم الاقتصاد الوطني. فُرضت سياسات اقتصادية ممنهجة، بالتنسيق مع منظمات دولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، أدت إلى تحويل اليمن من بلد كان ينعم بالاكتفاء الذاتي في القطاع الزراعي إلى بلد يعتمد على الهبات والإعانات الخارجية. هذه السياسات، التي قادت إلى سلسلة من الإجراءات التدميرية كدعم المنتجات الزراعية المستوردة لتدمير ما تبقى من بنية إنتاجية للمنتجات المحلية، التي ارتفعت كلفتها التشغيلية، وأصبح سعرها أضعاف السلع الأجنبية المدعومة، ما أدى إلى إغراق السوق بالمنتج الأجنبي، وتحويل رأس المال اليمني من قوة دافعة للتنمية إلى مجرد وكلاء تجاريين وموزعين للمنتج الأجنبي، ولاسيما المنتجات الأمريكية الإسرائيلية والبريطانية.
أدت هذه السياسات إلى فرض قائمة من الممنوعات على الاقتصاد اليمني، حيث مُنعت زراعة الحبوب ومختلف الصناعات التحويلية، ما لم تكن موادها الخام مستوردة. وبهذا، تحول رأس المال اليمني إلى عبء على المواطن، حيث استُنزفت أجوره ومدخراته لصالح توفير العملات الأجنبية لشراء منتجات المنتجين الأجانب، لا سيما الأمريكان والإسرائيليون والبريطانيون، دون أن يحظى حتى بالوكالة المباشرة، فرأس المال اليمني لا يتجاوز دوره أكثر من وكيل للوكيل الخليجي، خصوصاً السعودي والإماراتي، ما أدى إلى فقدان اليمن لسيادته الاقتصادية بالكامل.
عندما تولى صالح الرئاسة، في العام 1978، كان الاقتصاد يعتمد على الزراعة والواردات والصناعات المحلية. وقد منحت السلطة شرعيتها في الدولة المركزية من قبل شبكة متنوعة من الجماعات القبلية المتسيدة على المستوى المحلي.
تصرفت الدولة في النزاعات المحلية كوسيط، بدلا من أن تكون السلطة التي تفرض القانون بشكل موحد في جميع أنحاء البلاد. وعلى مدى 3 عقود، عمل نظام صالح على “مركزة” توزيع السلطة والثروة ضمن شبكة عائلية وقبلية ضيقة.
وبدلا من بناء المؤسسات الرسمية للدولة الوليدة، حيّد صالح القادة المحليين المنافسين والأقوياء بشبكة من رعايا آخرين يعتمدون على ريع النفط، وصولا إلى الفرص التجارية المشروعة وغير المشروعة، وتم تهميش الدوائر المحلية على نحو متزايد، واستخدمت تكتيكات “فرق تسد” لضمان أن قوة القيادة المركزية لا يمكن الطعن بها.
لم يقتصر الفساد على الجانب الاقتصادي، بل امتد ليشمل تدمير المؤسسات وإفراغها من محتواها. فقد أصبحت المناصب تفصّل على مقاسات أرباب المصالح، وتضخمت الهياكل الإدارية دون فاعلية، وهو ما قاد في النهاية إلى انهيار إداري ومؤسسي شامل.
وشهد ملف القضاء والتشريعات تدميراً مماثلاً، حيث تم بناء قوانين تخدم مصالح الفساد، وتمنح المتنفذين غطاءً قانونياً للالتفاف على القضايا وتفاقم الظلم. حتى أن مباني المحاكم في أمانة العاصمة صنعاء كانت أغلبها بالإيجار، ما يعكس الإهمال المتعمد للبنية المؤسسية للدولة.
تتكشف فصول الخيانة الكبرى في حكاية حكم صالح، حيث تشير الوقائع إلى أن ارتباطه بالسلطة لم يكن سوى رهناً للقرار اليمني لصالح العدو الأمريكي منذ بداية حكمه. فقد حوّل عفاش النظامَ إلى أداة لتثبيت الهيمنة الأمريكية، ومنح ضوءاً أخضر لانتهاك السيادة وتنفيذ عمليات القتل والتصفية. بل وأنشأ أجهزة أمنية وعسكرية لخدمة المصالح الأمريكية، مثل جهاز الأمن القومي والحرس الجمهوري.
ولم تكن العلاقة تقتصر على العدو الأمريكي، بل امتدت إلى التطبيع الصامت مع العدو الإسرائيلي. تشير التقارير إلى أن عفاش استند على “الموساد” للوصول إلى السلطة عام 1978، ووصل به الأمر إلى تجنيد ضباط من الموساد لحمايته. لقد كان هذا التعاون سرياً لكنه كان فاعلاً، ووصل إلى صفقات سرية لبيع المصالح الوطنية.
تؤكد وثائق عديدة على هذا التواطؤ، فخلال حرب صيف 1994، كشف تحقيق لصحيفة “الغارديان” البريطانية عن وجود فريق عسكري إسرائيلي ضمن اللجان التي خططت للحرب وأدارت العمليات. وقد كان هذا الدعم مقابل وعدِ “صالح” بتمكين العدو الإسرائيلي من بناء قاعدة صاروخية استراتيجية في جزيرة ميون. كما كشف تحقيق لمجلة “فورين بوليسي” في عام 2016 عن وجود علاقات سرية بين عفاش وكيان العدو عبر وسطاء من الإمارات والأردن ، وتضمنت تلك العلاقات صفقات عسكرية وتقنية.
إن نتائج تك الحقبة التدميرية لم تتوقف عند حدود الانهيار الداخلي، بل مهدت الطريق للعدوان الأمريكي السعودي اللاحق على اليمن. فبعد أن تم تدمير البنية التحتية، واحتلال وسرقة الثروات النفطية، وتم قطع المرتبات على الموظفين، أصبحت البلاد في وضع هش يسهل استهدافه.++