أفق نيوز
الخبر بلا حدود

مجد الدين المؤيدي.. نصف قرن من صياغة الهوية المعاصـــــرة للزيدية 

140

بقلم: محمد عايش 

في الذروة من مرحلة عاصفة في التاريخ المعاصر للزيدية .. في (18سبتمبر/2007 م) مرجع يجمع علماء مذهبه على منحه لقب “المجدد” ؛ اللقب نفسه الذي يمنح، في العادة ، لكبار أئمة ومؤسسي المذهب الزيدي منذ مطلع القرن الثاني للهجرة.

عن 96 عاماً ، وزهاء 7 عقود من التدريس والاجتهاد ، وقرابة نصف قرن من الإسهام الحاسم في تشكيل الهوية لزيدية ما بعد 2

6 سبتمبر 62م ، رحل العلامة مجد الدين المؤيدي ليترك برحيله فراغا سيلقي بظلاله طويلا ، على واقع واحد من التيارات الرئيسة : الدينية ، السياسية ، والاجتماعية ، في اليمن .

أما “المرحلة العاصفة” فهي هذه التي ينزف المذهب الزيدي تحت وطأتها منذ اندلاع حرب صعدة 2004 ، وأفضت حتى الآن إلى إغلاق أغلب المدارس الزيدية وتجميد مختلف أنشطتها العلمية والثقافية .

لم يكن الراحل طرفاً في الحرب أو هدفاً مباشراً لها ، لكنها في النهاية استهدفت كل ما يمثله وطالت بالأضرار مصالح تياره وطموحات أتباعه .

الأهم أن الحرب في وجهها الآخر ، جاءت نتاجاً لتاريخ طويل من علاقة غير ودية بين السلطات الحاكمة في صنعاء والتيار الزيدي الذي يدين في بلورة كثير من خياراته المعاصرة لاجتهادات ومواقف مجد الدين المؤيدي .

إستنادا لهذه الرؤية نضع اليد على مدخل مناسب لقراءة أولية في جوانب من شخصية الراحل وإسهاماته المعرفية والعملية:

ولد مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي عام 1332هـ ، لأسرة عريقة في العلم والسياسة ؛ والده كان

عالماً مبرزاً كما كان شخصية مقربة من الإمام المهدي محمد بن القاسم ، فيما والدته “أمة الله” هي ابنة الإمام المهدي نفسه.

برز علمياً في مرحلة مبكرة من شبابه ، وفي عهد الإمام أحمد حميد الدين ، سُجل أول اقتراب له من السياسة .

كان اقتراباً من بوابة الدين ، حيث أعلن معارضة حادَّة للإمام أحمد إثر سماح الأخير ببث الأغاني الوطنية ، المصحوبة بالموسيقى ، عبر إذاعة صنعاء حديثة النشأة آنذاك .

وجه رسالة ، بهذه المعارضة ، إلى الإمام تحولت لاحقاً إلى كتاب بعنوان “البلاغ الناهي عن الغناء وآلات الملاهي” ، والأقرب أن ما بدى معارضة فقهية انطوى على مباينة سياسية لنظام الإمام ، إذ لم يُسجَّلْ لاحقاً أي انخراط لمجد الدين في أي من المناشط الرسمية للمملكة المتوكلية كما لم يلتحق بأي منصبٍ حكومي ، وثمة تفسيرٌ شائع بأنه لم يكن يعترف في الأساس بأهلية الإمام أحمد للحكم .

رغم ذلك ، وبعد سنوات من نهاية الملكية ، سيؤلف العلامة المؤيدي كتابه “التحف.. شرح الزلف” مدونا فيه سير وتاريخ أئمة الزيدية بدءاً بالإمام علي بن أبي طالب وانتهاءً بالإمام الناصر لدين الله أحمد بن يحيى بن حميد الدين .

التحول الكبير الذي طرأ مع ثورة سبتمبر 1962 .. وضع كل علماء الزيدية تحت طائلة امتحان عسير ؛ عشرات منهم تمت تصفيتهم جسدياً ، بعضهم وضع رهن الاعتقال ، وآخرون تركوا رهناً للمراقبة وتضييق الحركة .

لم يكن هذا هو الأخطر ، الخطورة القصوى كانت على الصعيد الأعم : حيث انهيار نظام الإمامة شكل في الواقع تهديداً وجودياً للزيدية بما هي مذهب فكري/ سياسي ضرب الانقلاب الجمهوري دعامته السياسية التي ظلت الرافعة الأهم لوجوده طوال قرون .

في تجربة التاريخ فإن الزيدية في العراق حين انتهى وجودها ، كمعارضة سياسية ، أواخر العصر العباسي ، انتهى وجودها

، أيضاً ، كمذهبٍ فكري وفقهي .

وحين سقط حكم الزيدية في الجيل والديلم ( إيران) توقفت عن الاستمرار هناك كمذهب تعبدي.

لا يتعلق السبب بهشاشة فكرية أو فقهية من نوع ما ، بل بظاهرة أصيلة في الزيدية التي نشأت ، أساسا ، كتيار سياسي مرتبط بواقع المجتمع الإسلامي ووجوده الدنيوي ، وفقط في الفترات اللاحقة للتأسيس ( بعد المائة الأولى للهجرة) أُنْجِزَتْ ، تدريجياً ، نظريتها الفكرية والفقهية متخذة صيغة عقائد سياسية/ عملية ، أكثر منها غيبية/ إيمانية ( أبرز الأصول المميزة للزيدية عن غيرها من الفرق هي: الإمامة ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والخروج على الحاكم الظالم ، وهي قضايا متعلقة بمحض المُعاش الدنيوي) .

هذا الاشتباك بين الفكر والسياسة يفسر لماذا تستعصي الزيدية على التحول لمذهب “زوايا” يحافظ على الاستمرار عبر الشعائر وطقوس العبادات ، كحال عديد مذاهب ومدارس إسلامية أخرى ، كما يفسر أيضا لماذا انهيار الرافعة السياسة ( أيا كانت الرافعة : حكما أو معارضة ) يعني انهيارا للكيان الزيدي .

هكذا سيجد مجد الدين المؤيدي نفسه ، وهو أعلى مجتهدي مذهبه ، أمام مهمة جسيمة للحيلولة بين الزيدية ، بعد 26 سبتمبر ، وبين المصير الذي آلت إليه في العراق والجيل والديلم ، أو بينها وبين مصير ، أكثر شهرة ، هو مصير المعتزلة بعد انقلاب الخليفة العباسي “المعتصم” عليها كمذهب رسمي للخلفاء قبله .

بالفعل خاض المؤيدي ، منذئذ ودون تخطيط مسبق ، معركة وقائية أثمرت زيدية بهوية متجددة وقابلة للحياة ،سياسياً ؛ حافظ على انسحابه من الحياة السياسية ، تاركاً الحماس الثوري في صنعاء ليأخذ مداه خلال الجمهوريات الخمس وصولاً إلى عام 90 ، غير أن انسحابه لم يكن انسحاب المحايد أو غير المعني بالشأن السياسي ، لقد كان انسحابا إلى شكلٍ آخر من أشكال المعارضة هو “المعارضة السالبة” التي ترفض الاعتراف بشرعية ما هو قائم على صعيد الحكم والسياسة ، لترفض بالتالي التعامل مع أي من تفاصيله ، مع إبقاء الباب مفتوحاً أمام احتمالات التعامل مع أي أوضاع جديدة لا تقوم على نفس الشروط والإكراهات الثورية المسيطرة حينها .

نخبة الزيدية ومقلدوها ، كما الحكومات المتعاقبة في صنعاء ، ظلت واعية بهذا الموقف للمؤيدي ، والذي ما لبث أن أصبح موقفاً لسائر علماء الزيدية ومثقفيها مع استثناءات قليلة جداً ، والحال أن خيارات الرجل المنطلقة من هذا الموقف تحولت لدى هؤلاء ، وآلاف من أتباعه ، إلى معيارٍ أعلى لما ينبغي وما لا ينبغي الإقدام عليه من علاقات مع النظام الحاكم .

عدم التفريق بين ملكية آل حميد الدين وبين الزيدية ، واستمرار حكومات الثورة في تبني خطاب تحقيري لـ “الرأس مال” الرمزي لهذا التيار ، وفَّرا مبرراً كاملاً لاعتماد المؤيدي هذا النمط من المعارضة ، ليتولًّد عن ذلك تاريخٌ من الشكوك المتبادلة بين السلطة والزيدية الدينية ( تمييزا لها عن الزيدية المناطقية التي ترتكز عليها شرعية النظام اليمني المعاصر منذ الثورة) .

لقد نجح العلامة المؤيدي إذاً ، في صياغة متحد سياسي جديد أمكن للزيدية الاعتصام به طوال عقود ، بعد أن ظل المتحد السياسي التاريخي للمذهب هو : إما المعارضة ، سلميا أو بالسلاح كالحال في العصرين الأموي والعباسي ، وإما الحكم عبر نظام الإمامة على النحو الذي استمر في اليمن حتى الستينات ، وقام قبل ذلك في أجزاء من المغرب العربي كما في جزء من إيران لشطر من الزمان .

المستوى الآخر لمعركة العلامة المؤيدي ، في سياق الحفاظ على كيان المذهب ، كان المستوى المعرفي :

عملية بعث قصوى للتراث الزيدي بذلها خلال عقود ، أثمرت كتبا وموسوعات ورسائل استقصت كل المقولات والعقائد الأساسية والثانوية داخل هذا التراث .

اتخذت عملية البعث هذه طابع الموسوعية والتأرخة ، وبدا أن الهدف الذي فرضته اللحظة التحولية هو التوثيق وإعادة إحياء قيم وأفكار المدرسة العريقة حفاظا عليها من الاندثار وتسهيلاً لنقلها عبر أجيال جديدة قادمة .

من هنا ألف موسوعاته في الفكر الزيدي من مثل ” لوامع الأنوار في جوامع العلوم والآثار وتراجم أولي العلم والأنظار” و ” مجمع الفوائد المشتمل على بغية الرائد وضالة الناشد” و ” التحف شرح الزلف” و ” عيون المختار من فنون الشعر والآثار” وغيرها .

بالتزامن مع هذا الجهد قاد حركة تدريس عريضة في صعدة ، الطائف ، ونجران ، وهناك في صعدة وحدها 3 أجيال من العلماء تخرجوا على يديه أو على يدي تلاميذه ، وجميعهم يملكون الآن تأثيراً بالغاً في الجمهور الزيدي .

انسحاب مجد الدين المؤيدي من الحياة السياسية ، حتى العام 90 ، انطوى على رفض لمجمل ممارسات أنظمة ما بعد الثورة ، دون أن يمتد رفضه إلى شرعية النظام الجمهوري نفسه .

يتضح ذلك في مناقشته لإشكالية النسب وشرط ” البطنين” ضمن نظرية الإمامة :

في كتاب ” التحف” ، مثلاً ، يقول إن شرط الهاشمية في الإمام هو ” مسألة استدلالية ” وليس ضرورة من “ضرورات الدين” ، أي أن تجاوز هذا الشرط جائز ولا مشكلة دينية في ذلك .

مستعيداً في هذا السياق ، ممارسة تاريخية لأئمة الفقه والفكر الزيدي : إنهم كانوا يتعاملون مع من تولى الحكم من غير العلويين ” وسار بالعدل وأقام أحكام الشريعة ؛ أحسن المعاملة ، كعمر بن عبدالعزيز ، وإنما يجاهدون من جار وظلم المسلمين” (التحف) .

هذه الزحزحة لمعيار “العنصر” وإحلال معيار “الحكم العادل” محله لا تفضي ، فحسب ، إلى انفتاح الزيدية على النظام الجمهوري ، بل تسقط ، في الواقع ، واحداً من العوائق المهمة بين الفكر السياسي الزيدي وبين إمكانية الالتحاق بالعصر .

وإذن فإن مقولة “الحاكم العادل” ونموذج “عمر بن عبدالعزيز” سيتم تداولها وتكريسها لتصبح جزءاً من الثقافة اليومية لنخبة الزيدية ومقلديها .

العام 1990 ، حدث متغير الوحدة الذي سيحرك كل المياه الراكدة ، بما فيها مياه الزيدية الدينية.

تبني الديمقراطية وإطلاق التعددية الحزبية والحريات السياسية ، قوبل باستجابة واضحة من قبل مجد الدين المؤيدي ، كما بقية العلماء ، للانخراط في العملية السياسية والتنافس على مواقع الحكم والقرار .

فكرة تأسيس حزب الحق تبلورت لدى العلماء في صنعاء وطُرحت على العلامة المؤيدي في صعدة.

ظهر اسمه على رأس قائمة المؤسسين ، وتولى بعد إشهار الحزب رئاسة هيئته العليا .

بالتزامن مع تأسيس الحزب ، أُعلن ما عُرف ببيان علماء الزيدية ؛ البيان الذي تضمن فتوى بتجاوز فكرة الإمامة والنسب وتبني الديمقراطية وخياراتها كوسائل للحكم والوصول إليه .

لقد كان البيان ، في الواقع ، وخصوصاً في جانبه الأول (الإمامة وشروطها) تحصيل حاصل للمعالجة التي نفذها المؤيدي لهذه القضية أواسط السبعينيات .

عام 93 خاض حزب الحق الانتخابات البرلمانية مراهناً ، بشكل أساسي ، على دوائر محافظة صعدة ، نفوذ مجد الدين المؤيدي على العلماء والجمهور الزيدي هناك ، كان ركيزة هذا الرهان.

6 دوائر انتخابية، في المحافظة ، نافس فيها الحزب ، بعد أن حصل كل مرشح من مرشحيه الـ 6 على تزكية من قبل المؤيدي .

الاستقطاب الحاد لناخبي صعدة بين المؤتمر الشعبي العام وحزب الحق أظهر نفوذاً كبيراً للأخير استناداً إلى تأثير المؤيدي ، وعلماء آخرين ، في الجمهور هناك

وفقاً لبيانات حزب الحق آنئذ فإن المؤتمر الشعبي لجأ إلى حسم المعركة عبر التحايل على عملية الاقتراع والفرز ، ما أدى في النهاية إلى فوز اثنين فقط من المرشحين الـ 6 للحزب فيما سقط الـ 4 الآخرون ، وبينهم حسين مجد الدين ، نجل العلامة المؤيدي نفسه .

بمعزل عن النتيجة المعلنة ، فإن واقع التصويت والاستقطاب السابق له حولا انتخابات 93 إلى مؤشر بالغ الدلالة على إمكانات هذا التيار الديني في استعادة النفوذ والتأثير بعد “إسبات” قسري خضع له لـ3 عقود .

إن فعالية رمزية مثلاً ، من فعاليات حزب الحق التي أقيمت برعاية مباشرة من المؤيدي ، هي مخيم الفتح في صعدة ؛ شارك فيها نحو 25 ألف شخص .

خلف المشاركة السياسية كان الهم الأساس “إحياء المذهب” وتعميق الولاء له لدى أتباعه ؛ في كتاب “لوامع الأنوار” ينقل المؤيدي نصاً لصارم الدين الوزير ، أحد الأعلام التاريخيين للزيدية ، يتحدث فيه عن الدور الحاسم لـ”الدولة” في دعم المذاهب ونشرها والحفاظ عليها ، وعن الكيفية التي كان “مذهب آل البيت” يزدهر بها طالما كانت دولتهم “قائمة وظاهرة” ، ليخلص إلى أن المذاهب “تتقوى بقوة الدول وتضعف بضعفها” .

الحريات السياسية والفكرية ، التي أطلقت في البلاد العام 90 ، مثلت التعويض المناسب لغياب هذه “الدولة” التي ترعى “المذهب” ، حيث الجميع في ظل قيم الحرية والتعدد قادرون على ممارسة أنشطتهم الدينية ورعاية مذاهبهم بأنفسهم .

هكذا بدا أن دعم المؤيدي لانخراط أبنائه وأتباعه في الممارسة السياسية.. هو نوعٌ من إظهار الامتنان لقيم التعددية نفسها ، أو لنقل “مباركة” لها بما هي أمرٌ حيوي لجماعة دينية تبحث عن إعادة الاعتراف والقبول بها كمكون من مكونات المجتمع .

ما من نص أو رأي علني أطلقه المؤيدي بهذا الخصوص ، لكنه استنتاج خاص من قراءتي لطبيعة الحراك الذي قاده منذ العام 90 ، إنه الحراك الذي تُرك هامشه ، فقط ، للنشاط السياسي والحزبي ، فيما انصرف بحيوية أكبر نحو المناشط الدينية التعليمية .

ومعه بدأت صعدة في العودة إلى مكانتها ككرسي للزيدية ، وفقاً لتسمية تقليدية .

برعاية مباشرة من مجد الدين المؤيدي إضافة إلى بدر الدين الحوثي ، الرجل التالي له في قائمة كبار مراجع الزيدية ، ترجمت عشرات المدارس والمساجد هذه العودة عبر استقطاب آلاف الطلاب و”المهاجرين” لتلقي العلوم الشرعية .

وفي الواقع فإن “صحوة” المدرسة الزيدية ، المستفيدة من الانفتاح السياسي ، لم تقتصر على صعدة وحدها ، بل امتدت إلى معظم الرقعة الجغرافية التي عرفت ، تاريخياً ، كمنطقة حاضنة للمذهب الزيدي ، وهو ما بدا بالنسبة للنظام الحاكم في صنعاء أمراً جدَّ خطير :

إن تنامي هذا النشاط الديني داخل المنطقة التي ينتمي إليها الحكم هو ، بنظره ، تفريغ بطيء للعصبية القبلية ، التي يستند إليها في شرعيته ، لمصلحة عصبية أخرى هي العصبية المذهبية التي تدين بالولاء لـ”العالم” و “المذهب” مقابل “الشيخ” أو “المنطقة” .

المبادرة لتفادي هذا الخطر جاءت في شكل تغذية رسمية لخلافات داخلية ما لبثت أن شطرت الحراك الزيدي في صعدة إلى نصفين ؛ مجد الدين المؤيدي على رأس النصف الأول ومعه معظم العلماء المعروفين هناك ، وبدر الدين الحوثي على رأس جماعة “الشباب المؤمن” مشكلاً مع أبنائه ووجوهاً صاعدة في النشاط المذهبي ؛ النصف الثاني .

بدأ الانقسام على شكل خلاف بين محافظين ومعتدلين ، لكنه استفحل ليلامس ، في النهاية ، صيغاً من العراك العنصري .

لم يكن الخلاف ، ولم يمارس بأي قدر ، بين المؤيدي والحوثي الأب ، فالمعارك الكلامية دارت بين أتباعهما ، فيما اكتفى كلٌ منهما بتوجيه انتقاداته لأتباع الآخر .

تدريجياً ، ومع بداية النصف الثاني من التسعينيات ، سينضج الصراع وتتضح معالمه أكثر ، فيما تدخل السلطة سيزداد اتساعاً .

القيادة العسكرية ومحافظ صعدة اضطلعا بدور حاسم في تصعيد حدة الاستقطاب بين الطرفين ، كما كان لمشائخ القبائل حضورهم الفاعل في التفاصيل .

بالتزامن ، وداخل جماعة “الشباب المؤمن” ، تراجع أبناء بدر الدين الحوثي “حسين ، محمد ، ويحيى” إلى الظل في هذا النزاع ، ليتصدر المعركة مع مجد الدين وأتباعه جناح آخر في الجماعة هو جناح محمد عزان ، الذي يضم إلى جانبه عبد الكريم جدبان وعلي أحمد الرازحي ، وثلاثتهم عند تأسيس منتدى “الشباب المؤمن” ، وجوه بارزة في الجيل الجديد من تلامذة المؤيدي والحوثي .

ألف الرازحي كتيباً في العقيدة اعتبرت جماعة “العلماء” بعضاً مما ورد فيه “خروجاً” على عقائد “آل البيت” ، وقام عزان وجدبان بتحقيق كتب من التراث الزيدي تدخلا فيها بتعديل بعض مفردات النصوص الأصلية أو حذف فقرات منها ، نزولاً منهما عند رغبة “الانفتاح والتسامح” تجاه المذاهب الأخرى ، العلماء رأوا في الأمر “تزويراً وتشويهاً” متعمداً لكتب الأئمة ( من وجهة محايدة فإن تحكيم المعيار الأخلاقي ، على حساب المعيار العلمي ، في تحقيق التراث هو أمر خطير وذو نتائج مكلفة على الصعيد المعرفي : مثلاً المفردات والمصطلحات الحادة التي استخدمها ابن حريوه السماوي بكثرة في كتابه “الغطمطم الزخار” لنعت خصمه الشوكاني ، تحمل وحدها مخزوناً هائلاً من الدلالات على واقع نفسي واجتماعي واقتصادي لعصر بأكمله هو عصر تأليف الكتاب ، لقد حذفها عزان ، فقط ليظهر المؤلف في صورة لائقة) .

استغرق هذان الأمران المساحة الأوسع من مبررات الخلاف ، وبغض النظر عن تفاصيل عديدة ، فإن ما أظهره الانقسام هو حجم المكانة المرجعية التي مثلها المؤيدي لدى الزيدية ؛ لقد تم التعامل مع المواقف والآراء التي صدرت عنه بالتقديس نفسه الذي تحاط به نصوص ومواقف الشخصيات التاريخية “الملهمة” في الوعي الديني ، وهي هنا شخصيات الأئمة المؤسسين .

طبيعة الردود و “الدفاع” من قبل “الشباب المؤمن” كانت ، نفسها ، مسكونة بهذه الهيمنة لشخصية المؤيدي ؛ وهي تعاملت معه فعلاً كإمام ، لذلك كان الهاجس الذي اشتغلت عليه الجماعة ، تحديداً جناح عزان ، هو التقليل من شأن “الإمام” في التاريخ .. تمهيداً للوصول إلى التقليل من شأن المؤيدي ؛ هكذا استعيدت مقولات يعترف بها الفكر الزيدي من مثل إن “أئمة آل البيت ليسوا معصومين بأفرادهم بل بجماعتهم” ، وفي خطوة متقدمة استعاد محمد عزان قضية تاريخية ليستدل بها على أن الأئمة قد يخطئون ، وهي قضية المطرفية والإمام عبدالله بن حمزة ، في محاولة لإسقاط ما اعتبره عزان خطأً ارتكبه هذا الإمام ؛ على تعامل المؤيدي مع “الشباب المؤمن” الذين بدوا ، وفقاً لهذه الاستعادة ، في موقع المطرفية “المظلومة” من قبل ابن حمزة !!!.

مع تردي جماهيرية جناح عزان ، تدريجياً ، بدأ أعضاؤه باللجوء لسلاح أكثر قسوة ؛ إذ أخذوا يطرحون أن المعركة ضدهم تشن في الأساس لأنهم ، ثلاثتهم ، “غير هاشميين” !! .

لم يجد المؤيدي وسيلة معقولة للرد على هذه التهمة ، التي بدت وفقا لتعامله معها مؤلمة جداً له ، فلجأ إلى الوسيلة التي لا تستخدم في العادة إلا عند نفاد إمكانيات الحوار المنطقي ، وهي اليمين ؛ إنه اليمين الذي سيتخذ قيمة رمزية كبرى وسيتم تداوله وإرفاق نصه بصور المؤيدي لدى كل أتباعه ، كما أنه اليمين الذي ستخف بعده حدة الخلاف قبل أن تنتهي الأمور إلى الحرب الحكومية ضد جناح بدر الدين الحوثي وأبنائه في “الشباب المؤمن” وانقلاب جناح عزان على الجماعة والتحاقه العلني ( باستثناء الرازحي) بالمؤيدين للحرب ، التي رفضها المؤيدي من جهته ولم يمنحها هو أو أي من العلماء الموالين له أية شرعية رغم محاولات حكومية كبيرة لجرهم إلى ذلك.

 

أستحسن إنهاء الموضوع بنص اليمين:

” قسماً بالله العلي الكبير ، قسماً يعلم صدقه العليم الخبير ، أن لا غرض لنا ولا هوى ؛ غير النزول عند حكم الله ، والوقوف على مقتضى أمره ، وأنّا لو علمنا الحق في جانب أقصى الخلق من عربي أو عجمي أو قرشي أو حبشي لقبلناه منه ، وتقبلناه عنه ، ولما أنفنا من اتّباعه ، ولكُنّا من أعوانه عليه وأتباعه ، فليقل الناظر ما شاء ، ولا يراقب إلا ربه ، ولا يخش إلا ذنبه ، فالحكم الله ، والموعد القيامة ، وإلى الله ترجع الأمور “.

 

  • ملاحظة: نشر في صحيفة “الشارع” في سبتمبر 2007م
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com