أفق نيوز
الخبر بلا حدود

إشكالية الإعلان القضائي في اليمن بين الوسائل التقليدية والمنصات الرقمية: نحو تحديث تشريعي يواكب العصر

95

المحامي/ أحمد توفيق جحاف

يُعد نظام الإعلان القضائي من العناصر الأساسية التي تضمن مبدأ المواجهة العادلة وتمكن أطراف الخصومة من ممارسة حقهم في الدفاع عن حقوقهم القانونية.

ورغم الأهمية الكبيرة لهذا النظام، إلا أن الوسائل التقليدية المعتمدة حاليًا للإعلان القضائي، والتي تعتمد على المحضرين أو أصحاب الشأن، ما تزال تواجه عددًا من التحديات العملية التي تؤثر بشكل مباشر على فعالية العدالة، خاصة في ظل الظروف الراهنة التي يمر بها النظام القضائي في اليمن التي لا تزال الإجراءات التقليدية للإعلان، المعتمدة على المحضرين أو أصحاب الشأن، تُشكل عبئًا على سرعة وكفاءة التقاضي، خاصة في ظل التحديات اللوجستية والاقتصادية التي تواجه البلاد.

ومع الانتشار الواسع للمنصات الرقمية مثل “واتساب” و”تليجرام” واستخدامها الواسع بين الأفراد والمؤسسات، تتزايد الحاجة إلى إعادة النظر في آليات الإعلان القضائي وتحديثها لتواكب التطورات التقنية الحديثة، بما يسمح بتسريع الإجراءات وتقليل التكلفة والوقت المبذول في تنفيذ الإعلانات القضائية

, وفي ضوء ذلك ينطلق هذا البحث في دراسة الإطار القانوني الحاكم للإعلان القضائي في اليمن، متناولًا التحديات التي تعترض الوسائل التقليدية، ومسلطًا الضوء على الإمكانيات التقنية التي توفرها المنصات الرقمية الحديثة كوسائل بديلة أو مكملة لتعزيز فعالية الإعلان القضائي.

أولاً: الإطار القانوني للإعلان القضائي في اليمن

الإطار القانوني للإعلان القضائي في اليمن يخضع لنظام قانون المرافعات، حيث تنص المادة (39) من هذا القانون على أن كافة الإعلانات أو الاستدعاءات الموجهة إلى الخصوم والشهود تتم عبر المحضر أو صاحب الشأن نفسه عند الضرورة، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك. كما تلزم المادة (42) بأن يتم عرض الإعلان على الخصم حيثما وُجد، وإذا تعذر ذلك، يتم عرضه على من ينوب عنه أو في موطنه. وفي حال امتناعه، يتم عرض الأوراق عبر عاقل الحارة أو القرية أو من خلال قسم الشرطة، إن وجد، أو يتم أخذ إيضاح العاقل أو الإشهاد عليه. تعكس هذه النصوص اعتماد المشرع اليمني على الوسائل التقليدية في عملية الإعلان القضائي، دون الإشارة إلى الوسائل الإلكترونية أو الرقمية الحديثة. رغم ذلك، سعى المشرع في التعديل الأخير لقانون المرافعات والتنفيذ المدني بالقانون رقم 1 لسنة 2021 إلى معالجة هذه القضية من خلال المادة (105)، حيث نصت الصيغة المعدلة والمقرة من مجلس النواب في جلسة 19 ديسمبر 2020 على أنه “على قلم كتاب المحكمة، بعد قيد الدعوى في سجل قيد الدعاوى، إعداد ملف خاص بالقضية يحفظ فيه عريضة الدعوى ومرفقاتها، وبمجرد تقديم المدعى عليه رده كتابة أو شفاهة، يتم إرفاق الرد بالملف، ومن ثم يُرسل الملف إلى أمين السر المختص. وعليه، وفي يوم استلام ملف القضية، يتعين على أمانة السر اتخاذ الإجراءات التالية: 1. قيد الملف في سجل القضايا الخاصة، 2. مراجعة القاضي لتحديد موعد الجلسة الأولى، 3. إدراج القضية في دفتر يومية الجلسات، 4. إعلان الخصمين بموعد الجلسة الأولى. كما يُلزم قلم الكتاب بالحصول من الخصوم على ما يفيد تأكيدهم للمكان المختار للإعلان، ويحق لهم تحديد أرقام هواتفهم أو عناوين بريدهم الإلكتروني أو أي وسيلة إلكترونية أخرى يختارونها لإعلانهم بالمواعيد والأوراق، بما في ذلك إعلانهم بنسخة الحكم. وفي حال حدوث أي تغيير في هذه البيانات، يجب عليهم إبلاغ المحكمة، وإلا يُعتبر الإعلان قد تم على العنوان الذي قدمه الخصم سابقًا. ورغم الجهود التي بذلها المشرع اليمني في هذا التعديل، إلا أن هذه المعالجة تظل قاصرة عن تلبية كافة متطلبات العصر الرقمي، خاصة وأنها لم تدرج في الفصل السابع من الباب التمهيدي لقانون المرافعات، الذي ينظم أحكام الإعلان عن الأوراق القضائية.”

ثانيًا: التحديات المرتبطة بالإعلان التقليدي

” يشكل الإعلان القضائي بالوسائل التقليدية أحد أبرز التحديات التي تعيق فعالية النظام القضائي التي تؤثر سلبًا على سير العدالة، إذ تتسم هذه الوسائل – مثل الإعلانات عبر المحضرين أو الصحف الرسمية – بالبطء وتعقيد الإجراءات، فضلًا عن التكاليف المالية المرتفعة التي تتحملها الدولة أو الأطراف المتقاضية. مما يؤدي إلى تأخير الفصل في القضايا وتعطيل الإجراءات بشكل عام، وهذا يؤثر بشكل مباشر على مصالح الأطراف المتنازعة، وقد يتسبب في تقويض مبدأ التقاضي العادل ضمن المدة الزمنية المعقولة، وهو ما يتناقض مع ضمانات المحاكمة العادلة المنصوص عليها في التشريعات الوطنية والمبادئ القانونية الدولية.

ومن بين أبرز هذه التحديات صعوبة الوصول إلى المدعى عليه، خاصة في الحالات التي يغير فيها المدعى عليه مكان إقامته دون إشعار الجهات المختصة أو ينتقل إلى أماكن نائية تفتقر إلى نظام عنونة دقيق، مما يجعل الإعلان غير فاعل ويستدعي تكرار المحاولات وإعادة جدولة الإجراءات، مما يعرقل سير الدعوى ويؤثر سلبًا على فعاليتها.

إضافة إلى ذلك، فإن هذه الإجراءات التقليدية تضع عبئًا ثقيلًا على المحاكم والموظفين القضائيين، إذ تتطلب متابعة يومية، وتحرير محاضر إعلان، وتنسيقًا مع الصحف الرسمية والأجهزة الأمنية، ما يؤدي إلى إرهاق الجهاز الإداري وتأخير الجلسات، ويؤثر سلبًا على جودة الخدمات القضائية المقدمة للمواطنين. هذا التراكم في الإجراءات والقضايا يؤدي إلى ازدحام الملفات ويعوق تحقيق أهداف التحديث القضائي، مما يتعارض مع التوجه نحو تحقيق العدالة الرقمية وتيسير الوصول إليها بشكل سريع وفعال.”

ورغم أن المادة (45) من فانون المرافعات التي نصت على أنه {إذا كان المعلن إليه قد ترك موطنه ولم يُعرف له موطن داخل الجمهورية أو خارجها وجب إعلانه بالنشر في إحدى الصحف الحكومية اليومية ثلاث مرات متتالية على نفقة طالب الإعلان } تمنح مخرجًا قانونيًا في حالات تعذر الإعلان بسبب جهل موطن الخصم، إلا أن فعاليتها العملية أصبحت موضع شك في ظل المتغيرات التكنولوجية والاجتماعية المتسارعة، إذ لم يعد النشر في الصحف الورقية وسيلة مجدية أو مؤثرة لإيصال مضمون الإعلان إلى علم المعنيّ به، بل تحول في كثير من الحالات إلى إجراء شكلي يفتقر إلى القيمة الفعلية، خاصة في ضوء تراجع الإقبال على قراءة الصحف المطبوعة، ومحدودية توزيعها جغرافيًا، بل إنها تتركز غالبًا في المدن وتحرم منها القرى والمناطق الريفية او النائية ، ما يؤدي إلى غياب التغطية العادلة والمتكافئة للإعلانات القضائية، كما أن الاستمرار في الاكتفاء بالنشر في الصحف الرسمية يُغفل الواقع الاجتماعي الراهن الذي يتسم بارتباط الغالبية العظمى من الناس بالهواتف الذكية ومتابعتهم للمعلومات والأخبار عبر الوسائط الرقمية، مما يجعل هذا الأسلوب التقليدي في الإعلان سببًا محتملاً في انتهاك حقوق الخصوم عبر حرمانهم من العلم بالإجراءات المتخذة ضدهم، وبالتالي الإخلال بمبدأي المواجهة والعلنية، فضلًا عن الأعباء المالية التي يتحملها طالب الإعلان في مقابل إجراء غير فعّال لا يحقق الغاية منه،

ثالثًا: الإمكانيات التي توفرها المنصات الرقمية في مجال الإعلان القضائي:

في ظل التطور التكنولوجي المتسارع، أصبحت المنصات الرقمية جزءًا لا يتجزأ من وسائل الاتصال اليومي بين الأفراد، الأمر الذي يفتح آفاقًا واسعة أمام تحديث الوسائل الإجرائية التقليدية، وعلى رأسها نظام الإعلان القضائي. وتُعد تطبيقات المراسلة الفورية مثل “واتساب” و”تليجرام” وغيرها من الأدوات التكنولوجية الحديثة، وسائل فعالة يمكن توظيفها قانونًا في عمليات الإعلان القضائي، لما توفره من إمكانيات تقنية تسهم في تحقيق سرعة الإجراءات، وضمان فعالية التواصل، ويمكن إجمال أبرز تلك الإمكانيات في النقاط التالية:

1. التوثيق الزمني والإثبات الرقمي:

تتميز هذه المنصات بقدرتها على تسجيل وقت وتاريخ إرسال الرسالة بدقة، الأمر الذي يُعد دليلًا ماديًا قاطعًا يمكن اعتماده في المحاضر القضائية لإثبات واقعة الإعلان، ويُسهم في تقليص النزاعات حول توقيت تبليغ الخصم، بما يحقق الأمن الإجرائي ويحمي حقوق الطرف المُعلِن والمُعلَن إليه على حد سواء.

2. التأكيد على الاستلام وقراءة الرسالة:

توفر بعض التطبيقات – كـ”واتساب” – مؤشرات فنية تظهر تلقائيًا عند استلام الرسالة وقراءتها، مثل علامتي الصح الزرقاوين، وهو ما يمكن الاستناد إليه كقرينة على وصول الإعلان إلى علم المخاطب به. وتُعد هذه القرائن الرقمية، عند دمجها بالإثباتات الأخرى، معززة لصحة الإعلان ومحققة للغرض الجوهري منه، وهو العلم الفعلي بمضمون الإجراء.

3. الوصول السريع والواسع الانتشار:

بالنظر إلى الانتشار الكبير لاستخدام الهواتف الذكية وتطبيقات التراسل في مختلف شرائح المجتمع، فإن اعتماد هذه الوسائل يُسهم في إيصال الإعلانات القضائية إلى نطاق أوسع، دون الحاجة للمرور بالإجراءات الورقية التقليدية. كما أن هذه التطبيقات تتيح إمكانية التواصل مع الأطراف المقيمين خارج النطاق المحلي أو خارج البلاد، مما يعزز من جدوى استخدامها في القضايا ذات البُعد الدولي أو التي تتطلب إجراءات مستعجلة.

وبالتالي، فإن اعتماد الإعلان الإلكتروني عبر المنصات الرقمية لا يمثل مجرد خيار تقني، بل يُعد خطوة جوهرية نحو تحقيق عدالة ناجزة، تتماشى مع مبدأ التيسير الإجرائي، وتُجسد التزام القضاء بمواكبة التطورات التكنولوجية، دون المساس بضمانات الخصومة أو الإخلال بحق الدفاع.

خامسًا: الخاتمة والمقترحات

إن التحديات الحالية تقتضي ضرورة إعادة تقييم الوسائل التقليدية المتبعة في الإعلان القضائي، وذلك من خلال فتح المجال أمام بدائل إلكترونية تضمن سرعة التبليغ ودقته، مع ضمان حماية العدالة والحفاظ على الحقوق الدستورية للمتقاضين. ويستدعي هذا الأمر مراجعة المواد (39) و(42) و(45) من قانون المرافعات بشكل جاد لتشمل الوسائل الإلكترونية كأدوات معترف بها للإعلان القضائي، إلى جانب سن تشريعات بديلة تراعي التطور الرقمي وتستند إلى وسائل الاتصال الحديثة. من بين هذه البدائل، يمكن الاعتماد على الإعلان الإلكتروني عبر المواقع الرسمية للمحاكم أو استخدام الرسائل النصية القصيرة والبريد الإلكتروني الموثق، بالإضافة إلى تفعيل نشر الإعلانات عبر المنصات الحكومية الرقمية ذات الانتشار الواسع أو ربطها بالحسابات المرتبطة بالهوية الرقمية الوطنية. كما يمكن تقنين الإنذارات القضائية عبر تطبيقات التواصل التي ترتبط بأرقام الهواتف أو بيانات السجل المدني. وفي هذا السياق، فإن الإبقاء على المواد المذكورة بصيغتها الحالية دون تحديث يتناقض مع متطلبات العدالة المعاصرة، حيث يُعزز من الإجراءات الشكلية التي لا تحقق الهدف الأساسي من الإعلان، مما يفرض ضرورة إعادة صياغة آلية الإعلان القضائي بما يتناسب مع الواقع الرقمي، بما يضمن إبلاغ الخصم بالإجراءات القضائية المتخذة ضده، مما يسهم في حماية حقوق الدفاع، وترسيخ العدالة، وتسريع عملية الفصل القضائي. كما يُعد إنشاء منصة إلكترونية رسمية خطوة هامة تتيح للمحاكم إرسال الإعلانات القضائية عبر الوسائل الرقمية المعتمدة، مع توفير آليات فعّالة للتحقق من الهوية واستلام الإعلانات. من جهة أخرى، يجب العمل على تدريب القضاة والمحامين على استخدام هذه الوسائل الرقمية في الإجراءات القضائية، إلى جانب توعية الجمهور بأهمية هذه الوسائل في تسريع وتحقيق العدالة. وفي نفس السياق، يجب وضع ضمانات قانونية تضمن حماية البيانات الشخصية وسرية المعلومات المتبادلة عبر هذه الوسائل الرقمية، لضمان الامتثال للقوانين وحماية الحقوق الفردية في ظل العصر الرقمي.

المراجع:

• قانون المرافعات اليمني.

• السقاف، أ. م. ع. (2024). أحكام الإعلان الإلكتروني في إجراءات التقاضي في القانون اليمني دراسة مقارنة. مجلة جامعة صنعاء للعلوم الإنسانية.

• الثورة نت. (2024). الإعلان الإلكتروني.. خطوة هامة نحو تطوير النظام القضائي في اليمن.

• وزارة العدل وحقوق الإنسان اليمنية. (2024). اجتماع لمناقشة تطوير البنية التحتية الرقمية للمحاكم.

• الصحيفة القضائية. (2024). ضرورة إصدار لائحة تنظم الإعلان الإلكتروني للأوراق القضائية.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com