نفسي الفداء.. للشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي
أفق نيوز| نفسي الفداء لكل منتصر حزينْ
قُتلَ الذين يحبهم،
إذ كان يحمي الآخرينْ،
يحمي بشبرٍ تحت كعبيه اتزان العقلِ
معنى العدل في الدنيا على إطلاقهِ
يحمي البرايا أجمعينْ،
حتى مماليك البلاد القاعدينْ،
والحرب واعظة تنادينا
لقد سلم المقاتلُوالذين بدورهم قتلوا
نعم هذا قضاء الله لكن
ربما سلموا إذا كان الجميع مقاتلينْ،
نفسي فداء للرجال ملثمينْ،
إذ يطلقون سلاحهم مثل الدعاء يطير من أدنى لأعلى
مثل تاريخٍ هنا يُمْلي فيتلى
حاصرونا كيفما شئتم
فإن الخبز والتاريخ يُصنع هاهنا تحت الحصار
نفسي فداء للشموس تسير في الأنفاق تحت الأرض من دار لدار
إن الصباحُ هنا يُهرب من يدٍ ليدٍ
بديلاً عن صباح خربته طائرات الظالمينْ
نفسي فداء للسماء قنابل الفسفور تملؤها كشعر الغولِ
ألف جديلةٍ بيضاء نحو الأرض تسعى
ألف أفعى
والسماء تريد أن تنقض كالمبنى القديمِ
فنرفع الأيدي لتعدل ميلها،
وتكاد أن تنهار لولا ما توفر من أكف الطيبينْ،
يا أهل غزة ما عليكم بعدها
والله لولاكم لما بقيت سماء ما تظل العالمينْ،
.
نفسي الفداء لعرق زيتون من البلد الأمينْ،
أضحى يقلص ظلهُ،
كالشيخ يجمع ثوبهُ،
إن صادفته بِرْكَةٌ في الدربِ
حتى لا يمر مجندٌ من تحتهِ
ويقول إن كسرته دبابتهم في زحفها نحو المدينة:
“لا يهم، على الأقل فإنهم لن يستظلوا بي
وتلك نبوءةٌقد كان يفهمها
الغزاة من القرون السابقينْ
هذي بلاد الشام
كيف تقوم فيها دولة ربت عدواتها مع الزيتون يا حمقى
ولكن عذركم معكم فأنتم بعدُ ما زلتم غزاة محدثينْْ
قسماً بشيبي لن يطول بقاؤكم
فالظل يأنف أن تمروا تحتهُ
والأرض تأنف أن تمروا فوقها
والله سماكم قديماً في بلادي عابرينْ”
.
نفسي فداء للرجال المسعفينْ،
المنحنين على الركام ولم يكونوا منحنينْ،
الراكضين إلى المنازل باحثين عن الأنينْ،
حيث الأنين علامة الأحياء يصبح نادراً،
حيث الحياة تصير حقاً لا مجازاً خاتماً في التُرْبِتظهرُ،
يرهفون السمعَ رغمَ القصفِ،
تخفى مرةً أخرى وتظهرُ،
يرفعون الردمَ، لا أحدٌ هنا،
تبدو يدٌ أو ما يشابهها هناكَ،
ويُخرجون الجسمَ رغم تشابه الألوانِ
بين الرمل والإنسانِ
كالذكرى من النسيانِ
كالمعنى من الهذيانِ
تطلع أمةٌ منسيةٌ
يا دهر فلتتذكر الموتى،
هنالك سبعة في الطابق الثاني
ثمانية بباب الدارِ،
أربعة من الأطفال ماتت أمهم وبقوا
لأيامٍ بلا ماءٍ ولا مأوى،
ولا صوتٍ، ولا جدوى،
ولا دعوى لرب المن والسلوى،
فقل للموت، يا هذا استعد فإنهم
والله لن يأتوك أطفالاً، ولكن
كالشيوخ تجارباً ومرارةً،
حضِّر دفاعك فالقضاة
مضرجين بحكمهم
قدموا عليك مسائلينْ وغاضبينْ،
نفسي وما نفسي الفداء لأسرةٍ
جمعَ الجنود رجالها ونساءها وصغارها
في غرفةٍ قالوا لهم:
أنتم هنا في مأمن من شرناومضوا،
ليأمر ضابط منهم بقصف البيت عن بعدٍ
ويأمر بعدها جرافتين بأن يُسوَى ما تبقَّى بالتراب،
لعل طفلاً لم يمت في الضربة الأولى
ويأمر بعد ذلك أن تسير مجنزرات الجيش في بطءٍ
على جثث الجميعِ،
يريد أن يتأكد الجندي أن القوم موتى
ربما قاموا، يحدث نفسه في الليلِ
يرجع مرة أخرى لنفس البيت، يقصفهُ،
ويقنع نفسهُ، ماتوا،
بكل طريقة ماتوا،
ويسأل نفسه، لكن ألم أقتلهمو من قبلُ،
من ستين عاماً، نفس هذا القتلِ،
نفس مراحل التنفيذِ،
لست أظنهم ماتوا،
ويطلب طلعةً أخرى
من الطيران تنصره على الموتى
ويرفع شارة للنصر مبتسماً إلى العدسات
منسحباً، سعيداً أن طفلاً من أولئك لم يقمْ
من تحت أنقاض المباني
كي يكدرهولكن لا ينام الليل،
ما زال احتمالاً قائماً أن يرجعوا
فيضيء ليلتهم بأنواع القنابل،
سائلا قِطعَ الظلام عن الركام وأهلهِ
ماذا ترين وتسمعينْ؟
فتجيبهُ:لم ألق إلا قاتلاً قلقاً، وقتلى هادئينْ،
.
نفسي فداء للصغار الساهرينْ،
عطشاَ وجوعاً من حصار الأقربين الآكلين الشاربينْ،
المالكين النيل والوادي وما والاهما ملك اليمينْ،
الشائبين الصابغين شعورهم فمعمرينْ،
من أين يأتيكم شعور أنكم سَتُعَمّرُون إلى الأبدْ!
ثقة لعمري لم أجدها في أحدْ،
عيشوا كما شئتم ليوم أو لغدْ،
لكنني صدقاً أقول لكم
فقط من أجل منظركم، وهيبتكم
إذا سرتم غدا في شاشة التلفاز
سيروا صاغرينْ،
.
نفسي فداء للصغار النائمينْ،
بممر مستشفى على برد البلاط بلا سريرٍ،
خمسةً أو ستةً متجاورينْ،
في صوف بطانية فيها الدماء مكفنينْ،
قل للعدو، أراك أحمق ما تزالْ،
فالآن فاوضهم على ما شئت
واطلب منهمو وقف القتالْ،
يا قائد النفر الغزاة إلى الجديلةِ
أو إلى العين الكحيلةِ
من سنين،
أدري بأنك لا تخاف الطفل حياً
إنما أدعوك صدقاً، أن تخاف من الصغار الميتينْ.