“سيدي هاشم” وما أدراك من الشهيد
أفق نيوز| تقرير | يحيى الشامي. وليد الوشلي
ليست بالسهلة أن يحاول كاتب أو أن يتجرّأ مقال على صياغة سيرة فارسٍ من فرسانِ معركة الفتح الموعود والجهاد المقدس، بطريقة تفيه وتليقُ بعظمةِ تضحياتِه وشموخِ مسيرتِه، أو بلغةٍ تحاول بلوغ ذرى المجد التي يسكنها القائد، وتجهد في الغوص في مكنون النفوس وأفئدة الجماهير التي يسكنها هاشم، وبأسلوبٍ يجمع -بحرف وبضع كلمات- بين شخصيته، وسيرته الذاتية، وتاريخ بطولاته، وأدواره، ومهامه، وتنقلاته، وإنجازاته، وتضحياته، وشهادته.
وسط زحمة الأحداث والحوادث وهول الحروب والمعارك التي خاضها، أنت بالكاد تجده بذاته لتمسك بخيط من شخصه، فهو كان المسيرة في قلب وقلباً في المسيرة.
إنه جزءٌ لا ينفصل عن المشروع، وقائدٌ يذوب في المنهج ساعياً دؤوباً لا يكل عن بلوغ الأهداف وتحقيق الغايات، وكلها للكل، لا له ولا لشخصه. لذا، وأنت تفتش عنه ستجد كتلة من اليقين شكلتها التراكمات، وبنتها الخبرات، ودائماً هو حيث يجب أن يكون المؤمن المجاهد أن يكون، ويستحيل أن تجده يوماً حيث تهوى نفسه أن تبقى. ذلك هو سيدي هاشم أو المجاهد محمد عبدالكريم الغماري.
يتجلى “هاشم” في الوعي أسطورة حيَّة، تتمظهرُ في كل تفصيلٍ من تفاصيلِ المشهدِ اليمنيِّ، وتتوارى في الوقتِ ذاتِه خلفَ الإنجازاتِ العِظام والمسؤوليات الجسام، لقد عاش “هاشم” حياةً تضجُّ بالمعارك والمسؤولياتِ، شاهدًا على ستِّ حروبٍ، سُجِنَ في ثلاثٍ منها، وشارك في ثلاثٍ أُخَر، لم يكن غيابُه إلا عودةً، فسيرتُه هي امتدادٌ للمشروعِ القرآنيِّ الذي آمن به وعاش له.
“سيدي هاشم” هذا الاسمُ الذي يترددُ في كلِّ محفلٍ، والوجهُ الذي قلَّ ما يظهرُ، رجلٌ سبقَ قولَه بفعلٍ، وبنى فعلَه على بأسٍ شديدٍ، محى ذاتَه من الوجودِ، وغرقَ في بحرِ المسؤوليةِ، متساميًا عن نزواتِ النفسِ، متواريًا خلفَ البطولاتِ والإنجازات التي شكلت حقبة بهية من تاريخ اليمن الحديث، وأسَّست وفق طموح المشروع أسسَ يمنِ الحادي والعشرين من سبتمبر. اليمني الخالي من الوصاية، ومكتمل السيادة.
جزء من سيرته الجهادية لمعت في جبهة الحدود من شرقِ الحدِّ الشماليِّ إلى غربِه، ثمّ كانت الحدودُ ميدانَه العسكريَّ الأولَ، وأكاديميَّتَه الحربيةَ التي تخرَّجَ فيها برتبةِ أركانٍ لكلِّ الجبهاتِ وأقسامِ القواتِ، يومها كان المنصب الذي يهابه الجميع ويخشاه الكل، كونه ذروة التحدي المدير لشؤون الجبهة، والمدبّر لأمور الأقسام العسكرية الاستراتيجية في لحظة مواجهة اليمن لأكبر تحالف أعرابي أمريكي غربي يشن عدواناً مفاجئاً على اليمن محاولاً الإجهاز على ثورته الفتية ونهضته القرآنية، وهي حقبة هي الأشدُّ تعقيدًا في تاريخِ اليمنِ، لكنَّ “هاشم” -المتسلحَ ببصيرتِه المستندةِ إلى ربِّه- أسلمَ نفسَه لهذه المسؤوليةِ الجسيمةِ، ناهضًا بالمؤسسةِ العسكرية المنهكةِ بفعلِ الهيكلةِ والتدميرِ والقصفِ والتجييرِ، ونجح في إعداد جيشٍ يواكبُ معارك اليومِ، ويبنى قدرةً تستشرفُ حروبَ الغدِ، برؤية ترى فيه جيشَ الشعب الذي لا يتلقى أمرًا من الخارج، بل ومهمته الأولى هي التصدي لمؤامرات الخارج ومحاولات إبقاء اليمن قيد الارتهان والتبعية التي ثار عليها وخرج منها لتوّه.
وفي حقبة معركة “الفتح الموعود والجهاد المقدس”، في اختبار معركة الإسناد التي سقط منها العالم بأعجوبة ونجح فيها اليمن بإيمانه، سيسجِّلُ التاريخُ أنَّ “الأركانَ” جَمعت -للمرةِ الأولى في تاريخِ الأنظمةِ- بين شعبٍ يهتفُ بالإسنادِ وقائدٍ يدعو للجهادِ، وأنَّ الغماري هو أولُ من قصفَ الكيانَ الصهيونيَّ من خارجِ الشامِ لعامين متتاليين بالصواريخ والمسيّرات والمجنّحات، وأغلقَ الميناءَ، وضربَ بعصا إسنادِه اليَمَّ، وخرقَ سفنَ التحالفِات الأمريكية والغربية، وأسقطَ طائراتِهم، وفرضَ سيادةَ القرارِ اليمني لأوّل مرة على البحرِ، وأوصدَ المندبَ الذي كان مستباحًا لقرون.
قبلها قاد الغماري معارك “البنيان المرصوص” و”نصر من اللهِ” و”الفتح” و”فجر التحريرِ” و”فأمكن منهم”، وومعارك الحدودِ والوسطِ، والجبال والساحلِ والصحراءِ، والبرِّ والبحرِ بمدِّه وجزرِه. كان “هاشم” يوزعُ القدراتِ بين الجبهاتِ، ويديرُ القواتِ، يملأُ الفراغاتِ، ويسدُّ الثغراتِ والفجواتِ، وفوقَ كلِّ ذلك، كان يفيضُ بحضورِه ليخمدَ الثاراتِ، ويُجاري ويُداري، كأنَّ يومَ “هاشم” أطولُ من أربعٍ وعشرين ساعةً، ومسؤوليتَه أعظمُ من عمرِه الذي بلغَ اثنتين وأربعين سنةً، بمقدارِ قرنٍ من التطويرِ والبناءِ. كلُّ تفاصيلِ التصنيعِ تروي سيرتَه، وتدابير الصاروخيةِ والمسيّر والدفاعِ، وفصول العملياتِ النوعيةِ، ومفاصل التحولاتِ الكبرى البريةِ والبحريةِ. “هاشم” هو الاسمُ المحبوبُ في قلبِ الجيلِ والمقاتلِ، وهو الرعبُ الخالدُ في الأرضِ المحتلَّةِ والموعودةِ: فلسطين. “هاشم” جرحٌ لا يُدمَل، لكنَّه جيشٌ لا يُقهر، وقد شاء اللهُ له اليومَ ألا يموتَ.
وبينه وفلسطين لم تكن علاقةُ “هاشم” اليمنِ و”غزةِ هاشمَ” مجردَ تشابهٍ في الأسماءِ، بل هي أقربُ من ذلك بكثيرٍ، تتجلَّى في الأفعالِ، وتختصرُها جغرافيا الإسنادِ، وتصوغُها استراتيجياتُ القوةِ، فما بين “سيدي هاشم” -فتى الشعارِ ورجلِ المشروعِ وثائرِ الاستقلالِ ورئيسِ أركانِ يمنِ الطوفانِ- وبين فلسطين، علاقة لا تُقاسُ بآلافِ الكيلومتراتِ، بل مسيرةٌ تعودُ بدايةُ انطلاقِها لأكثر من عشرين عامًا من العمقِ والامتدادِ والتجذُّر، فمنذ أولِ صرخةٍ صدحَ بها مؤسسُ المشروعِ القرآنيِّ، التي حدَّدت العدوَّ وما يجبُ فعلُه، ومنذ أولِ ملزمةٍ في منهجيةِ تحرُّكٍ جماعيٍّ عمليٍّ ناهضٍ بالمسؤوليةِ، التي حدَّدت القضيةَ الأولى وما ينبغي عملُه، تحرَّكَ حملةُ المشروعِ والمنهجيةِ تحت قيادةِ علمٍ قيَّضَ اللهُ من بعدِه علمًا، وكان “سيدي هاشم” من سابقيه المكبِّرين، ومن حملتِه الطلائعيين، ستُّ حروبٍ من بعدها حروبٌ، كلُّها هُزمت، وثورةٌ من بعدها ثورةٌ، وأيُّ ثورةٍ تلك التي صحَّحت وانتصرت!.
وحين دقت ساعةُ صفرِ الطوفانِ، مؤذنةً بأنَّ فلسطينَ غيرُ قابلةٍ للتصفيةِ ولا للنخاسةِ ولا للنسيانِ، كان اليمنُ في أولِ الصفوفِ في الميدانِ، بالإنسانِ والسلاحِ والإيمانِ. مع غزةَ، لم يتركْها لوحدها وقد تُركت وخُذلت ونُسيت. مع غزةَ وقفَ من بينِ رمادِ الحربِ، ونهضَ من شظفِ الحصارِ، ليقاتلَ بخياراتِ قائدهِ ومليونياتِ شعبِه وبقواتِ رئيسِ أركانِه، بحساباتٍ كانت متصلةً بالسماءِ أكثرَ منها بالأرضِ، فكتبَ اللهُ لليمنِ على يدِ قائدهِ وجيشِه وشعبِه ورئيسِ أركانِه انتصاراتٍ ما عرفتها يومًا جيوشُ العربِ وعروشُ الأعرابِ، انتصارات ما تزالُ ترتِّلها أمواجُ ثلاثةِ بحارٍ ومحيطٍ وخليجٍ ومضيقٍ، والتي كانت جميعُها من قبلُ بركةً أمريكيةً وماجلًا صهيونيًا، تلهو به حاملاتُ الطائراتِ تهديدًا وهيمنةً ووصايةً، وتعبثُ فيه الغواصاتُ عجرفةً وعنجهيةً وغطرسةً. ما بين “سيدي هاشم” وفلسطين، ما بين رئيسِ أركانِنا وبين قدسِنا والقسامِ، ليست علاقةً من تلك التي عهدتها دبلوماسيةُ قرنٍ من النكباتِ وخداعيةُ مئاتٍ من القممِ والاجتماعاتِ والمناوراتِ. بل علاقةُ قادةٍ عظماءَ ومقدساتٍ عظيمةٍ، أواصرُ أمَّةٍ يشكلُ اليمنُ ومحورُ المقاومةِ فيها نواةَ النهوضِ وبوابةَ الخلاصِ. علاقةُ البندقيةِ المساندةِ للبندقيةِ الملتحمةِ، علاقةُ سيفٍ مسلمٍ ضاربٍ قائمٍ، مقبضُه في أقصى الجزيرةِ، وفي شمالِها وشآمِها رأسُ نصلِه الفالق والمزيل والمقتلع.
يحق القول لروحه وفي حضرته أنه “على قدرِ أهلِ العزمِ تقدَّمُ التضحياتُ ويُبذلُ الدمُ”، وعلى طريقِ القدسِ تمضي معركةُ الإسنادِ إلى الفتحِ الموعودِ، في جبهاتٍ تقدَّست عطاءاتُها، وتباركت تضحياتُها، وتزاحمت وتعاظمت قرابينُها حتى صارت موثقًا يقرِّبُ الركبَ من القدسِ، وعهودًا دونها التحريرُ، وبها الفتحُ، ومعها اللهُ بالنصرِ ضمينٌ، فهاشم كان الركنُ به شديدا، وبدمِه صار -اليومَ- أشدَّ، وكان العزمُ معه عظيمًا، وبشهادتهِ صار حديدًا، ودمُه المسفوكُ على متراسِ الفتحِ الموعودِ يجري اليومَ في عروقِ شعبٍ وشرايينِ جيشٍ وأوردةِ أحرارٍ، وأوديةٍ تردُّ القدسَ أفواجًا.
نقلا عن موقع انصار الله