ظلال الانحراف ومآلات الضلال في واقع الأُمَّــة
أفق نيوز| بشير ربيع الصانع
حينما يجيلُ المرءُ بصرَه في واقع الأُمَّــة الإسلامية اليوم، يعتصرُه الألمُ ويغشى قلبَه الأسى لما آلت إليه من حالٍ بائسٍ يندى له الجبين؛ فقد تحوَّلت هذه الأُمَّــةُ التي أراد اللهُ لها أن تكونَ خيرَ أُمَّـة أُخرجت للناس إلى كيانٍ مفكَّك، يسودُه البرود، ويغيبُ عنه استشعارُ المسؤولية الكبرى.
وليس هذا الواقع المرير وليدَ الصدفة، بل هو حصادٌ مُـــــرٌّ وتراكُمات طويلة من الانحراف عن النهج الإلهي القويم، وموروثٌ ثقيلٌ من الضلال الذي بدأ يتسلَّلُ منذ أن ابتعدت الأُمَّــةُ عن وصايا نبيها الكريم -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ-، فتاهت البُوصلة، واختلت الموازين، وغاب النورُ الذي كان يكفلُ لها السيادةَ والريادة، ليحلَّ محلَه ظلامٌ حالك كدَّس في النفوس الوهن، وأورثها حالةً من الخمول والركود القاتل.
إن هذا الضلالَ المتراكِمَ تحوَّلَ إلى دَاءٍ عُضال ينخرُ في جسد الأُمَّــة، مُجَـرّدًا إياها من روحِ المبادرة، وصارفًا همتَها عن القضايا المصيرية التي بها قوام الدين والدنيا، كإقامة القسط ونصرة المستضعفين، ليتقوقع الفرد المسلم حول ذاته، غارقًا في وحل المصالح الشخصية الضيقة، ناسيًا دورَه كمستخلَفٍ في الأرض، ومسؤولًا عن عِمارتها بالحق والعدل، وقد صدق اللهُ تعالى حين حذَّرَ من هذا المآل بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أنفسهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، فهذا النسيانُ للمنهج الإلهي هو الذي جعل الأُمَّــةَ تفقدُ هويتَها، وتتحوَّلُ من فاعلٍ في التاريخ إلى مفعولٍ به، ومن قائدٍ للأمم إلى تابعٍ ذليل يقتاتُ من فتات موائد أعدائه.
ولعل أخطر ما في هذا الضلال أنه أصبح أدَاةً طيعةً بيد القوى المستكبرة وأعداء الإسلام، الذين وجدوا في هذا التيهِ فرصةً سانحةً لتدجين الأُمَّــة، وسلب إرادتها، وإطالة أمد هيمنتهم عليها، فلم يكتفوا بالهجوم العسكري المباشر، بل عملوا بخبثٍ ودهاء على صناعة الفكر المنحرف، وتغذية التيارات الضالة، وإعداد “علماء السوء” الذين يلبسون الحق بالباطل، ويتحدثون باسم الدين ليفرغوه من مضمونه الثوري والجهادي، ويحيلوه إلى طقوس شكلية ميتة لا روح فيها ولا حياة، مما جعل الإسلام في نظر الكثيرين – وبكل أسف – دين تخلفٍ وركود، بدلًا عن أن يكونَ دينَ نهضةٍ وحضارة، مِصداقًا لقوله تعالى في ذم من يكتمون الحقَّ ويحرِّفونه: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قليلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وقد أثمر هذا التخطيط الشيطاني واقعًا مأساويًّا، حَيثُ قويت شوكة الأعداء، وتمزَّقت الأُمَّــةُ من الداخل؛ فصار بأسُها بينها شديدًا، وجُيِّش أبناؤها لقتل بعضهم بعضًا بدلًا من توجيهِ سلاحهم نحو عدوهم الحقيقي، وغابت عنهم البصيرة، فما عادوا يرون الطريق المستقيم، وأصبحت الأُمَّــة -رغم كثرة عددها- لا تمثل رقمًا يُذكر في المعادلات العالمية، عاجزةً عن دفع الأخطار عن نفسها، بل وعاجزة حتى عن تأمين قوتها الضروري، في مشهدٍ يجسد قمة الإذلال والتبعية، وكل ذلك لأن المضلين حجبوا نورَ الرسالة الإلهية، وقدَّموا نسخةً مشوَّهة من الدين تخدم الطغاة ولا ترضي الله، محولين الإنسان من كائنٍ رسالي يحمل همَّ البناء والإصلاح، إلى كائنٍ عبثي يدور في فلك الشهوات والشبهات.
وإزاء هذا الواقع المظلم، لا مفر لنا ولا نجاة إلا بالعودة الصادقة والواعية إلى المنبع الصافي، والمنهج القويم الذي رسمه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ- وَسَلَّـمَ-، فالحل بتصحيح المسار وفق الوصية النبوية الخالدة التي عصمت من تمسك بها من الضلال أبدًا، حين قال صلوات الله عليه وعلى آله: «إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدًا: كتابَ الله وعترتي أهلَ بيتي، إن اللطيفَ الخبيرَ نبَّأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»؛ فهذا هو طوقُ النجاة، وهذه هي السفينة التي من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى، فالقرآن الكريم هو الدستور، وأهل البيت هم الأدلاء العارفون بمراد الله، القادرون على نفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين.
والمسؤولية تحتم علينا اليوم أن نصغي بقلوبٍ واعية لنداء أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو يستصرخ الضمائر الحية، ويحذر من مغبة الغفلة واتباع دعاة الضلال، في كلماتٍ تهز الوجدان وتقرع الأسماع: «فَأَفِقْ أَيُّهَا السَّامِعُ مِنْ سَكْرَتِكَ، وَاسْتَيْقِظْ مِنْ غَفْلَتِكَ، وَاخْتَصِرْ مِنْ عَجَلَتِكَ، وَأَنْعِمِ الْفِكْرَ فِيمَا جَاءَكَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ (صلى الله عليه وآله) مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا مَحِيصَ عَنْهُ، وَخَالِفْ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ إلى غَيْرِهِ، وَدَعْهُ وَمَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ»، فهل من مجيب لهذا النداء؟ وهل من عودة صادقة ترفع عن الأُمَّــة هذا الذل وتعيد لها مجدها المسلوب؟ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأنفسهِمْ}.