قبائلُ اليمن.. حياةٌ واستجابة
أفق نيوز| بشير ربيع الصانع
اليوم، تتدفق المشاعر الجياشة في أودية اليمن وسهوله وجباله، تتدفق كالنهر العظيم الذي يحمل في ضفتَيه ذاكرة الأجداد وهمة الأحفاد.. لقد انبعثت روح اليمن من جديد، روح لم تَغِبْ يومًا، لكنها اليوم تتجلى في مشهد مهيب قلّ أن شهدت الأرض مثله: خروج قبائل اليمن في كُـلّ محافظة ومديرية، كتلة بشرية واحدة، نبض واحد، تتقدم معلنة النفير العام، مستعدة لمواجهة التحدي المصيري.
إنه مشهد يُذكّر بيوم اليمن الأول، يوم كان فيه اليمنيون سادة الموقف، حماة المبادئ، أنصار الرسول والرسالة.
هذا الحضور الكثيف، وهذا الزخم العارم، هو بصمة وعي عميق، واستشعار للمسؤولية الإيمانية التي حملها اليمنيون على أكتافهم عبر القرون.
إنها القبيلة اليمنية التي تفهم معنى العهد، وتدرك ثقل الأمانة.
ها هم أبناء همدان، الذين جاهدوا مع الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وأبناء كندة الذين حملوا لواء العلم والشجاعة، وأبناء مذحج الذين كتبوا بأرواحهم ملاحم البطولة، ها هم أحفادهم اليوم يسيرون على الدرب نفسه، يرفعون الراية نفسها.
لقد ورثوا الدم الذي سال دفاعًا عن الرسول وأهل بيته، وها هو ذلك الدم اليوم يغلي في عروقهم دفاعًا عن نفس المبدأ، ونفس الكرامة، ونفس الإسلام.
إن هذا التحَرّك والخروج هو تجسيد حي لقول الله تعالى في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}.
إنها الروح اليمانية التي وعد بها الرحمن، روح التواضع للمؤمنين والعزة على الكافرين، روح الجهاد الذي لا يخشى لومة لائم.
وهنا تتدفق الذكرى كالنداء الخالد الذي يصل حاضرنا بماضينا العظيم.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إذا هاجت عليكم الفتن فعليكم باليمن”.
اليوم، وقد هاجت الفتن من كُـلّ صوب، وتربص الأعداء بالدين وأهله، ها هو اليمن يقف كالجبل الأشم، ملجأ الحق ومنطلق النصرة.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: “إني لَأجِدُ نَفَسَ الرحمن من هاهنا” وأشَارَ إلى اليمن.
إنه الوحي الإلهي الذي بشّر بروح إيمانية تنبع من هذه الأرض الطيبة: “الإيمان يمان والحكمة يمانية والفقه يمان”.
ها هو ذلك الإيمان يتجلى اليوم في مواكب البشر، وها هي تلك الحكمة تُترجَم في قرار التصدي، وها هو ذلك الفقه العميق بمعنى الجهاد والحق يظهر في استعدادهم للمعركة الحاسمة.
إن هذا التفاعلُ الجادُّ هو الموروث القديم الذي ينبض بالحياة، في زمن تخاذل فيه الكثيرون، وتنكّروا لقيم كانوا يرفعون شعاراتها.
إن قبائلَ اليمن تذكّرنا بأن الإسلام هو مواقف تترجم، وتضحيات تُقدّم، ودماء تُسفح دفاعًا عن الحريم والمقدسات.
إنهم يحملون نفسَ الروح التي حملها أسلافهم حين نصروا الحسين، ووقفوا مع الحق في أحلك الظروف.
لقد وعَت القبيلة اليمنية درس التاريخ جيِّدًا.
إنها تعلم أنها حارسة هذا الموقع الجغرافي والإيماني، تعلم أن عليها مسؤولية حماية هذا الصرح الشامخ.
إن تحَرُّكَها اليوم هو ترجمة عملية لهذا الوعي، وهو إعلان للعالم أن اليمن، أرض الإيمان والحكمة، لن تكون ساحةً للمستعمر، ولن تكون أرضًا تنكسر أمام الطغيان.
إن حضورَها في الماضي لم يكن صدفة، وحضورها اليوم ليس جديدًا، بل هو سنة إلهية، وعهد تاريخي، ووعد نبوي يتحقّق.
إن المشاعرَ التي تعتملُ في صدور أبناء اليمن اليوم هي مشاعر مختلطة من الحزن على ما يجري للأُمَّـة، والغضب من تكالب الأعداء، والفخر بالانتماء إلى هذا التراث المجيد، والعزم الأكيد على كتابة فصل جديد من فصول البطولة.
إنها نفسُ المشاعر التي دفعت أجدادَهم إلى الوقوف مع الحق، وهي نفس المشاعر التي ستدفعُهم اليوم إلى الصمود في وجه أعتى قوة استكبارية.
ها هو اليمنُ ينهضُ بسلاحه وبروحه التي لا تقهر، وإيمانه الذي لا يتزعزع، وتاريخُه الذي لا ينكر.
إنها يقظة التاريخ، وصوت الدم الذي ينادي في العروق، وصرخة الأرض التي ترفض الذل.
إن المعركة القادمة هي معركة وجود، معركة هوية، معركة إرادَة.
وَإذَا كان الماضي قد شهد لليمن بالنصرة، فإن الحاضر يشهد له بالاستعداد، والمستقبل سيشهد له، بإذن الله، بالنصر والتمكين.
فطوبى لليمن وأهله، طوبى لهذه القبائل التي تذكّر الأُمَّــة بكرامتها، وتعيد لها ثقتها بنفسها.
طوبى لهم وهم يكتبون بموقفهم هذا أجمل فصول العزة، وأروع صفحات الوفاء.
إنهم بحق، أهل للآية الكريمة: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ}، وأهلٌ للحديث الشريف: “إني لَأَجِدُ نفَسُ الرحمن من هاهنا”، وأهلٌ لخلافة الأجداد في حمل الأمانة.
اليمن اليوم، كما كان دائمًا، قلعة الإيمان، ومنبع العزة، وحصن الأُمَّــة الأخير.