هل السعودية حريصة على وحدة اليمن… أم خائفة من عدوى التقسيم؟
أفق نيوز| د. نبيل عبدالله القدمي
لم تعد التحولات في المنطقة أحداثًا منفصلة يمكن قراءتها كلٌّ على حدة، بل غدت لوحة واحدة تتكامل فيها الوقائع، من القرن الأفريقي إلى جنوب اليمن، ومن خليج عدن إلى عمق الجزيرة العربية. وفي هذا السياق، لا يمكن النظر إلى اعتراف العدو الإسرائيلي بما يسمى “جمهورية أرض الصومال” بوصفه خطوة دبلوماسية عابرة، بل كجزء من مشروع نفوذ بحري وأمني مدروس، يستهدف أحد أهم الممرات الاستراتيجية في العالم: باب المندب وخليج عدن.
العدو الإسرائيلي، الذي لا يتحرك خارج حسابات أمنه القومي، لا يعلن اعترافًا سياسيًا إلا إذا كان يخدم مشروعًا يخدم مصالحه. وأرض الصومال، بموقعها المطل على خطوط الملاحة الدولية، تمثل بالنسبة للعدو الإسرائيلي نقطة ارتكاز متقدمة. غير أن اللافت أن هذا الحضور للعدو الإسرائيلي لا يأتي منفردًا، بل عبر بوابة إماراتية مفتوحة سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا. فالإمارات هي اليد الإسرائيلية بالمنطقة ولم تعد تخفي دورها المتنامي في القرن الأفريقي، ولا تدخلها العميق في جنوب اليمن، حيث يرتبط دعمها العلني للمجلس الانتقالي الجنوبي مع أهداف تتجاوز “قضية الجنوب” إلى إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، وتشمل كل الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن.
في الجنوب اليمني، لم يعد الدعم الإماراتي مجرد مساندة، بل أصبح جزءًا من شبكة إقليمية ترتبط مباشرة بالمصالح الإسرائيلية في البحر والموانئ والجزر. والسيطرة على السواحل، وإدارة الموانئ، وإنشاء قواعد غير معلنة، وتمكين قوى انفصالية، كلها خطوات تصب في اتجاه واحد: تفكيك الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، وتحويلها إلى كيانات هشة يسهل التحكم بها وتوظيفها لخدمة مشاريع الهيمنة.
وهنا يبرز السؤال الجوهري: أين تقف السعودية من كل ما يجري؟ وهل هي فعلًا حريصة على وحدة اليمن كما تزعم؟ فالتاريخ القريب يقول إن مشروع تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم لم يكن مشروعًا وطنيًا خالصًا، بل مشروعًا سعوديًا لإضعاف الدولة اليمنية وفتح الباب أمام صراعات داخلية طويلة الأمد. فكيف يمكن لمن طرح مشروع تفتيت إداري وسياسي لليمن أن يتصدر اليوم خطاب “الحفاظ على الوحدة”؟
الواقع أن الموقف السعودي يبدو أكثر التباسًا مما يُعلن. فالسعودية التي دخلت الحرب وهي تعتقد أنها ستعيد تشكيل اليمن وفق رؤيتها، وجدت نفسها بعد سنوات أمام مشهد إقليمي يتغير بسرعة، وشركاء في التحالف السعودي أصبحوا يسيرون في اتجاهات لا تخدم أمن السعودية القومي. فالإمارات توسّع نفوذها جنوبًا، والكيان الإسرائيلي يتوغل أكثر عبر أدواته المتواجدة في الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، فيما لم تعد مشاريع التقسيم حكرًا على اليمن وحده.
ومن هنا، تبدو السعودية اليوم وكأنها لا تدافع عن وحدة اليمن بدافع مبدئي خالص، بقدر ما تخشى أن يتحول نموذج التفكيك إلى عدوى تمتد إليها. فالنار التي تُشعل في بيوت الجيران سرعان ما تبحث عن طريقها إلى المجاورين، والخرائط التي تُرسم لليمن والقرن الأفريقي قد تُعاد صياغتها غدًا داخل المملكة نفسها، تحت عناوين مختلفة وشعارات جديدة.
وما يزيد الصورة وضوحًا أن الطموح الإماراتي لا يتوقف عند فصل الجنوب وتحويله إلى كيان تابع، بل يتجاوز ذلك إلى محاولة صناعة كيان آخر بقيادة العميل المرتزق طارق عفاش، كدولة وظيفية جديدة تُقام عند بوابة البحر الأحمر، بهدف إحكام السيطرة على باب المندب وخطوط الملاحة الدولية. وهكذا يتبين أن الحديث عن “حق الجنوب” ليس سوى واجهة لمشروع أوسع، يراد به تفتيت اليمن إلى عدة كيانات متناحرة، تُدار من الخارج وتُسخَّر لخدمة الكيان الصهيوني، ولا علاقة لها بمصالح الشعب اليمني ولا بسيادته.
اليوم، ومع انكشاف هذا المشهد وتعقّد خيوطه، بات الداخل اليمني ينظر إلى صنعاء ويتساءل: ما هو دور صنعاء؟
صنعاء التي غيّرت معادلة الصراع، بل صنعت خلال الأعوام الماضية تاريخًا يُكتب بماء الذهب، تاريخًا من العزة والكرامة، ليس لليمن فحسب، بل للأمتين العربية والإسلامية. من صنعاء انطلقت مواقف كسرت هيبة الكيان الإسرائيلي، ومرغت أنفه بالتراب، ووضعت الولايات المتحدة وبريطانيا أمام حدود قوتهما، وأسقطت وهم التفوق المطلق لرؤوس الشر في هذا العالم، حتى أصبح كل حر في هذه الأمة ينظر إلى صنعاء بإعجاب واعتزاز كبيرين.
وفي صنعاء، لا تُدار الأمور بردود أفعال ولا بانفعالات لحظية، بل بوجود قائد رباني ينظر إلى الأحداث بعين قرآنية، ويزن المواقف بميزان الحكمة والمسؤولية، ويضع السيادة اليمنية فوق كل اعتبار. لذلك لن يُسمح بالعبث بالأرض اليمنية، وسوف يتم التدخل في الوقت والزمان المناسبين، وبما يخدم مصلحة اليمن وأمنه ووحدته. إن ما يجري اليوم يكشف حقيقة الصراع بوضوح. وقد عرف الجميع أنه ليس صراعًا على “الشرعية” ولا على “الوحدة” كما يُروَّج، بل صراع على المواقع والموانئ والممرات البحرية. ومن يملك مفتاح البحر يملك ورقة الضغط الأقوى. وفي هذا المشهد، تتجلى أهمية الموقف الذي يرفض الوصاية ويتمسك بالسيادة، ويرى أن وحدة اليمن ليست شعارًا سياسيًا للاستهلاك، بل شرطًا لبقاء الدولة ومنع تحويلها إلى ساحة نفوذ للآخرين.
وإن قراءة ما يجري بوعي، وربط الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال بالدور الإماراتي في الجنوب اليمني، وبالتردد السعودي في حسم موقفه، تقود إلى نتيجة واحدة لا تقبل الالتباس: المنطقة تُعاد صياغتها من جديد، ومن لا يمتلك قراره وسيادته سيجد نفسه مجرد بند هامشي في خرائط الآخرين، بينما اليمن الحر سيبقى موحدًا، وهو وحده القادر، بإرادة شعبه ووعي قيادته القرآنية، على إفشال كل مشاريع التقسيم مهما تنوعت عناوينها وتعددت أدواتها.