أفق نيوز
الخبر بلا حدود

جبلة.. أسرار المدينة التي احتضنت عرش ثاني ملكة في تاريخ الإسلام واليمن

37

أفق نيوز| محسن علي|

حيث تتشابك خيوط التاريخ مع عبق الحضارة في قلب اليمن، تتربع مدينة جبلة التاريخية بمحافظة إب كشاهد صامت على حقبة ذهبية من الحكم النسائي الرائد, بعد أن كانت عاصمة الدولة الصليحية التي اختارتها الملكة أروى بنت أحمد الصليحي، “السيدة الحرة”، لتكون مركزاً لإمبراطوريتها التي امتد نفوذها لأكثر من نصف قرن ,والمدينة التي احتضنت عرش ثاني ملكة في تاريخ الإسلام  واليمن تحكم باسمها، تاركةً خلفها إرثاً معمارياً لا يزال يصدح بعظمة تلك المرحلة، وعلى رأس هذا الإرث يقف مسجد الملكة أروى، جوهرة العمارة اليمنية التي تختزن في طياتها قصة امرأة حكمت بحكمة وعدل، وخلدت اسمها في سجلات التاريخ.

 

العاصمة الحصينة ومهد الحضارة الصليحية

تقع مدينة جبلة في محافظة إب وسط اليمن، على بعد حوالي سبعة كيلومترات غرب  المدينة، وتتميز بموقعها الجغرافي الفريد الذي يمنحها تحصيناً طبيعياً، حيث تقوم على هضبة محاطة بسلسلة من

الجبال’ هذا الموقع الاستراتيجي كان أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت الملكة أروى لنقل عاصمة الدولة الصليحية إليها من صنعاء في الفترة ما بين (477 – 532 هـ / 1085 – 1138 م).

 

أسباب اختيار جبلة عاصمة

هناك العديد من العوامل الطبيعية والجغرافية تقف وراء اختيار هذه المدينة عاصمة للدولة الصليحية ومن ضمنها: التحصين الطبيعي إذ وفرت الجبال المحيطة حماية طبيعية للعاصمة الجديدة, كذلك تميز سكان المنطقة بولائهم للملكة أروى, فضلا عن أن المنطقة اشتهرت بجمال طبيعتها الخلاب ووفرة مياهها, إذ كانت ولا تزال حتى اليوم متحفاً مفتوحاً، تتميز بمنازلها الحجرية المتراصة، وأزقتها الضيقة، ونظامها المعماري الذي يعكس حرفية البنّاء اليمني القديم.

 

من هي الملكة أروى بنت أحمد الصليحي؟

تُلقب الملكة أروى بـ “السيدة الحرة”، وهي شخصية محورية في تاريخ اليمن والعالم الإسلامي, تولت الحكم بعد وفاة زوجها أحمد بن علي الصليحي، وحكمت اليمن لأكثر من خمسين عاماً، وهي فترة تُعد من أزهى عصور الدولة الصليحية, وتشير المصادر التاريخية إلى أن الملكة كانت سياسية حكيمة وعالمة وفقيهة، وقد أدارت شؤون الدولة بكفاءة عالية، مما جعلها ثاني امرأة في الإسلام تحكم بشكل مستقل وتحمل لقب “ملكة”.

 

مسجد الملكة أروى بنت أحمد الصليحي

مسجد الملكة.. جوهرة العمارة الإسلامية اليمنية

يُعد مسجد الملكة أروى ، الذي يقع في قلب المدينة، أبرز المعالم التاريخية في جبلة وتحفة معمارية لا مثيل لها, وقد أمرت ببنائه وتوسعته،, ليصبح مركزاً دينياً وعلمياً هاماً.

 

بين الطراز الإسلامي التقليدي والعمارة اليمنية الأًصيلة

شيد أركان المسجد بين عامي 477 و 532 هـ (1085 – 1138 م) بطراز معماري يمزج بين الطراز الإسلامي التقليدي والعمارة اليمنية الأصيلة, ويتميز المسجد بمئذنتين, إحداهما تقع في الناحية الجنوبية الشرقية’ والأخرى في الناحية الجنوبية الغربية, وبمحراب هو أشبه بتحفة فنية, يتميز بعد زخارف ونقوش دقيقة , بينما تعرف خزانته بـ “المحارة” وبقبة تزين زخارفها الداخلية الهندسية والنباتية البديعة أجواء المسجد, كما يضم المسجد أيضا ضريح الملكة حيث دفنت فيه بعد وفاتها, تشير المصادر أيضا أن الملكة أضافت للمسجد بلاطة المحراب، التي يُعتقد أنها كانت بداية ظهور هذا العنصر المعماري في المساجد اليمنية، مما يدل على اهتمامها بالتفاصيل المعمارية والوظيفية للمسجد.

 

مواصفات الزخارف النباتية وتشكيلاتها

تمثل الزخارف النباتية الأحادية والثنائية والثلاثية والخماسية إضافة إلى المراوح النخيلية وأنصافها وأشكال الورود المتعددة البتلات إلى جانب السيقان والفروع النباتية والتي نفذت بالنقش على الجص وبالحفر البارز وتنتشر هذه التكوينات الزخرفية بين كوشات عقود الدخلات المجوفة على شكل أشرطة رأسية وأهم تلك الزخارف عبارة عن فخارية كبيرة تنصف الواجهة الشرقية للضريح وقوام زخرفتها عبارة عن أوراق ثلاثية وخماسية الفصوص داخل إطار مزدوج تشكل من فروع نباتية متعرجة تلتقي حينا ً وتختلف مع آخر ويفترقان مكونين إطارا ً لورقة ثلاثية وخماسية أخرى لتحفر بداخله ورقة أخرى مقلوبة وتتوالى بشكل رأسي عددها ثمان ورقات بينما يحيط بكل ورقة مقلوبة ورقتان أخريان خماسية البتلات، كما تتشابه زخارف الفخارية مع زخارف أخرى تقع على يمين ويسار مدخل الضريح متخذة أشكال أشرطة رأسية ، كما وجدت أوراق العنب الثلاثية والخماسية التي ظهرت متحدة مع الفروع والأغصان مما جعل من الصعب التمييز بين الغصن والورقة النابعة منه إذ قد تمتد الورقة فينبت منها غصن جديد وهذه التكوينات الزخرفية النباتية تتفق مع التكوينات الزخرفية النباتية لجوامع ومساجد الدولة الفاطمية في مصر .

 

فناء مسجد الملكة أروى في مدينة جبلة

العناصر الكتابية ونصوص الجدران

يزين جدران الضريح من الخارج زخارف كتابية بالخطين الكوفي والنسخ ، وقد نفذ الخط الكوفي بالحفر البارز وهو من النوع الكوفي المزهر على مهاد من التفريعات النباتية الجصية البديعة التكوين وقد نفذت الزخارف الجصية بالحروف البارزة فوق مستوى الأرضية، حيث ظهر هذا الخط الكوفي المطور في القرن الحادي عشر الهجري ، والذي يمتاز بنقش الكتابات على مستويين، مستوى الحروف العريضة البارزة، ومستوى الأرضية من ورائها المليئة بالزخارف المستقلة في رسومها والتفاف حركاتها عن الكتابات وقد راعى الخطاط أن تكون التكوينات الزخرفية النباتية خفيفة المظهر والحركة، بحيث تكون الحروف الكتابية بارزة على تلك الزخارف وهذه الكتابات تمثل إطار يدور حول واجهتي الضريح والتي تبدأ من الجهة الشرقية بالنص التالي : ( بسم الله الرحمن الرحيم، كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة … ) ، ومن الجهة الجنوبية بالنص التالي : ( ….. زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا َّ متاع الغرور والحمد الله ) , ومن المعروف أن الخط الكوفي المزهر ظهر في مصر ثم انتقل إلى المغرب، وتُعد مرحلة الانتقال من الخط الكوفي المورق إلى المزهر بتحويل أذناب بعض الحروف مثل الراء والنون والواو، وعلى أن تبدو الورقة النباتية كأنها منبثقة مباشرة من الذنب وهذا ما ينطبق على ضريح الملكة أروى بنت أحمد الصليحي إذ أن الحروف وخاصة نهاية الكلمات تخرج منها الورقة النباتية المتصلة بها على هيئة غصن نباتي .

 

العناصر المعمارية للضريح

محراب مسجد الملكة أروى في جبلة

تزين واجهة الضريح عناصر معمارية عبارة عن دخلات على هيئة محاريب مجوفة عددها في الجدار الشرقي أربعة دخلات والجنوبي دخلتان ويبلغ عرض الواحدة منها ( 60 سم ) وارتفاعها ( 1.60 مترا ً ) بعمق ( 10 سم ) وقد فتح مدخل في الجدار الجنوبي للضريح مما جعل المعمار لا يعمل إلا َّدخلتان فقط ويكتنف كل دخلة عمودين مندمجين ليس لهما تيجان، يقوم على العمودين عقد مدببة.

 

(وما الحياة الدنيا إلا َّ متاع الغرور)

كما يزين الضريح -الواقع أيسر القبلة في منزل متصل بالجامع وكانت هي التي تولت عمارته وهيأت موضع ضريحها به ,- من الأعلى شريط كتابي نفذ بخط النسخ على أرضية حمراء وهو من أعمال

التجديدات التي طرأت على الضريح إذ تتشابه كتابة هذا الشريط مع الشريط الكتابي المؤطر للباب والذي يوجد به النص التالي : ( نصر من الله وفتح قريب) وهي تؤرخ بحساب الجمل إلى عام ( 1248 هجرية ) – ( 1862 ميلادية ) كما يوجد به نصوص أخرى هي كالتالي : ( بسم الله الرحمن الرحيم كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا َّ متاع الغرور، وتبارك الله رب العالمين ) ، ( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين ) صدق الله العظيم , كما يتصدر واجهة الشريط الكتابي في الجهة الجنوبية منطقة مستطيلة الشكل زينت بأشرطة كتابية نصوصها كالتالي : بسم الله الرحمن الرحيم – لا إله إلا الله – محمد رسول الله.

 

ساقية الملكة.. إنجاز هندسي يروي التاريخ

من أبرز إنجازات الملكة أروى التي تدل على عبقريتها الهندسية والإدارية هي “ساقية الملكة “, وهي عبارة عن قناة مائية تمتد لأكثر من خمسة كيلومترات، تتميز بتصميم هندسي متقن يُمكنها من جمع مياه الأمطار والينابيع الطبيعية وتخزينها وتوزيعها بكفاءة، مما يساهم في دعم التنمية الزراعية وتحقيق الأمن الغذائي في المنطقة,وقد شيدتها لجلب المياه من منطقة الربادي وغيرها من المناطق المجاورة إلى مدينة جبلة، لتوفير مياه الشرب والري للمدينة ومزارعها وتلبي احتياجات السكان’ هذا الإنجاز الهيدروليكي، الذي صمد لأكثر من تسعة قرون، لم يروِ عطش السكان فحسب، بل ساهم في ازدهار الزراعة في المنطقة، ويُعد شاهداً حياً على مدى اهتمام الملكة برفاهية شعبها وتخطيطها المستقبلي, وأحد أبرز المعالم المائية التاريخية في الجمهورية اليمنية التي تعكس عبقرية الإنسان اليمني في تحويل التحديات الطبيعية إلى فرص مستدامة لخدمة الحياة والزراعة, وشاهداً حياً على الإرث الحضاري والتقني لليمن القديم في مجال إدارة الموارد المائية.

 

ساقية الملكة أروى

إرث ينتظر اليقظة

تبقى مدينة جبلة ومسجد الملكة أروى بنت أحمد الصليحي رمزاً حياً لقوة المرأة ودورها الريادي الأصيل في التاريخ الإسلامي الذي حفظ لها مكانها طهرها وعفتها وحشمتها وكرامتها ومنزلتها، خلافاً عما يقدمه الغرب الكافر وما يسمى بالحرب الناعمة عن المرأة في عصرنا الراهن, وجعل منها سلعة مجنسة رخيصة تباع وتشرى في سوق النخاسة تحت مزاعم حقوق المرأة وحريتها.

ومع وجود متحف الملكة بجوار المسجد، الذي يضم نماذج وأدوات من عصرها، تظل جبلة وجهة تاريخية وثقافية بامتياز، تتطلب جهوداً مضاعفة للحفاظ على إرثها المعماري والتاريخي من الاندثار.

يمانيون