أفق نيوز
الخبر بلا حدود

من صرخة الإمام زيد إلى نداء أبي عبيدة: صمت العلماء جرح لا يندمل

40

أفق نيوز|

تقرير |صادق البهكلي

في كل مفصل من مفاصل التاريخ، تنهض الأمة بأحد رجلين: مجاهدٍ يحمل سيفه في يد، وقرآنه في الأخرى؛ أو عالمٍ يصدع بالحق في وجه الجور. لكن حين يصمت العلماء، حين يُزَيَّف الوعي، ويُكتم صوت المظلومين، حينها تُفتح بوابات الجحيم. وهذا ما حصل مع الإمام زيد بن علي عليه السلام، ويحدث اليوم مجددًا مع المجاهد أبي عبيدة، الناطق باسم كتائب القسام، في نداء يقطر وجعًا، يخاطب فيه ذات الصمت وذات التخاذل الذي واجهه الإمام زيد قبل أكثر من ألف عام.

الإمام زيد، سبط الحسين، لم يقم بثورته في فراغ. بل وقف على أرضية محروقة من خذلان العلماء، وتواطؤ الفقهاء، الذين استبدلوا بالكتاب والسنة طاعةَ أولي الأمر وإن جلدوا الظهور. في رسالته الشهيرة إلى علماء الأمة، خاطبهم بقوله: “ساكنون؟ قد عمَّ الفساد وظهرت المنكرات، وقام الظلم على سوقه، وأنتم في بيوتكم صامتون؟ أليس في أعناقكم عهد الله أن لا تقولوا الباطل، ولا تسكتوا عن الحق؟”.

واليوم، وبعد قرون طويلة من النكبات، يأتي صوت آخر يشبه صوت زيد، لكنه يعلو من بين الركام والغبار، من تحت الحصار والبارود، من قلب غزة. يقول أبو عبيدة، بصوت مكلوم “يا قادة هذه الأمة الإسلامية والعربية، ويا نُخبها وأحزابها الكبيرة، ويا علماءها، أنتم خصومُنا أمام الله عز وجل، أنتم خصومُ كل طفل يتيم، وكل ثكلى، وكل نازح ومشرّد ومكلوم وجريح ومجوَّع، إن رقابكم مثقلة بدماء عشرات الآلاف من الأبرياء الذين خُذِلوا بصمتكم.”
بين الإمام زيد وأبي عبيدة مسافة قرون، لكنها في الحقيقة لحظة واحدة تتكرر. لحظة خذلان. لحظة صمت من كان يُنتظر منه أن يكون في الصفوف الأولى، لا في الخلف، يراقب بصمت، ويغسل يده من الدماء. هؤلاء ليسوا علماء دين، بل موظفو فقه تحت عباءة الطغاة.

 

منابر السلطة لا منابر الأمة

في كل عصرٍ تنقسم طبقة العلماء إلى صنفين لا ثالث لهما: علماء أمة، وعلماء سلطة. الأولون ينطقون بالحقيقة ولو كلفهم ذلك أرواحهم، أما الآخرون فيُفصّلون الفتاوى على مقاس البلاط، ويصمتون عند كل منكر إذا كان صادرًا من “ولي أمرهم”، ولو كان فرعون نفسه.

لم يكن الإمام زيد بن علي (عليهما السلام) غافلًا عن هذا الواقع، بل واجه أكثر أشكاله تعقيدًا في العصر الأموي، حين تحوّل جزء كبير من العلماء إلى أداة بيد الطغاة. كانوا يُشرعنون الفساد، ويُبررون الظلم، ويضعون نصوص “السمع والطاعة” في غير مواضعها، حتى كأنهم ما قرأوا قول الله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ.﴾.

وهكذا هم اليوم في أغلب أقطار العالم الإسلامي. علماء القصور، الذين تفيض حساباتهم المصرفية من “ريع الصمت”، يباركون تطبيع الطغاة مع العدو الصهيوني، ويبررون حصار غزة، ويمتنعون حتى عن ذكر اسم المقاومة في خطبهم، وكأن فلسطين بلد ناءٍ لا يعنيهم.

ألم يكن الأجدر بهم أن يخرجوا للناس كما خرج زيد، فيعلنوا كلمة حق عند سلطان جائر؟ ألم يكن الأولى أن نراهم يقرعون أبواب الملوك لينهوهم عن تآمرهم على القدس، بدلًا من أن يصطفّوا معهم على موائد الذلّ والعار؟

أبو عبيدة، في كلمته الأخيرة، كان واضحًا وهو يناشد علماء الأمة: لم يطلب منهم السلاح، ولا المواقف السياسية، بل فقط أن يقولوا الحق، أن يكسروا حاجز الصمت. لكن للأسف، وكما فعلوا مع الإمام زيد من قبل، أعرضوا. وكأن منابرهم لم تُبنَ للهدى، بل لخدمة الطاغوت.

وهنا يظهر التساؤل المرير: متى ينكسر هذا الصمت؟ ومتى تعود الكلمة الصادقة لتخرج من أفواه الذين يفترض أنهم ورثة الأنبياء؟

الإمام زيد (عليه السلام) أراد أن يوقظ العلماء فسُفك دمه

لم يكن الإمام زيد بن علي عليه السلام مجرد رجل صالح في محرابه، ولا فقيهًا معتزلاً في زاوية مع طلابه، بل كان صرخة مدوية في وجه الانحراف، وصوتًا صدّاحًا أراد أن يهز ضمائر العلماء النائمين في أحضان السلطة. لم تكن رسالته التي وجّهها إلى علماء الأمة نداءً عابرًا، بل كانت توبيخًا شديدًا، يحمّلهم مسؤولية السكوت، والتخاذل، والتواطؤ مع الظلم. لقد خاطبهم بلغة العالم الغيور، والعارف بما آلت إليه الأمة من ضياع وانكسار.

في رسالته الشهيرة، تحدث الإمام زيد عن واقع الفساد الذي ينخر جسد الأمة، عن تحوّل الحكّام إلى طغاة، وعن انتشار الظلم، وسفك الدماء، وانتهاك الحرمات، ثم وجّه إصبع الاتهام إلى العلماء، لا إلى السلاطين فقط، لأن الصمت عن الحق خيانة، وهو أشد من ارتكاب الجريمة نفسها. قالها بوضوح: “ما أهونكم على الله إذا كنتم تحرفون الكلم عن مواضعه، وتتركون الحق، وتسوّغون الباطل”.

لقد أراد الإمام زيد أن يُنقذ الأمة بإيقاظ قلبها وروحها، والعلماء هم ذلك القلب، فإذا تعطّلوا، ماتت الأمة، وإذا سكتوا، استأسد الظالم. ولذلك كان استهدافه لهم شديدًا، لأنه يعلم أن الكلمة من على المنبر قد تغيّر مصير شعب، وأن السكوت يُمهّد لحكم الطغاة لقرون.

لكن، كما هو حال الطغيان في كل زمان، كان مصير الإمام زيد القتل، والصلب، والتمثيل، لأنه قال ما لا يريدون سماعه. فخافوا من كلمته كما يخافون من السيوف، وواجهوه بالرماح لا بالحجج، لأنهم يعلمون أن صوت العالم إذا صاح، فلا شيء يوقف مدّه إلا الدم.

ومع هذا، لم يُهزم الإمام زيد، لأن دمه أصبح كتابًا مفتوحًا، وصفحة ثورية خالدة، ووصية لا تموت.

 

أبو عبيدة.. صوت غزة الجائع يصرخ في وجه الصمت

بعد أكثر من 21 شهرا من المذابح والإبادة ضد أبناء غزة، والحصار والتهجير والتجويع، وقتل الأطفال والنساء، في وسط صمت إسلامي وعربي مخز، في مقدمة هذا الصمت من يسمون أنفسهم علماء الأمة، خرج أبو عبيدة، الناطق باسم كتائب القسام، بكلمة قصيرة لكنها هزّت قلوب الأحرار، وفضحت صمت العلماء.

لم تكن كلمته منمقة ببلاغة الكتب، بل كانت من قلب النار، ومن تحت الركام، ومن بين صرخات الأطفال الجوعى في غزة. قالها بمرارة: “نحن نُذبح، وأبناء غزة يموتون جوعًا، وأنتم تتفرجون”.

كلمة أبي عبيدة، التي أُلقيت قبل يومين، لم تكن خطابًا عسكريًا كالمعتاد، بل كانت دعوة مؤلمة موجهة إلى علماء الأمة. لم يطالبهم بإصدار فتاوى للجهاد، ولا بإعلان النفير العام، بل ناشد ضمائرهم أن تتحرك، أن يقولوا كلمة حق في وجه من يفرض الحصار، ويمنع الغذاء والدواء، ويغلق المعابر أمام الجرحى. لقد خاطبهم كأب يرى أبناءه يحتضرون أمام عينيه، ولا يملك لهم شيئًا سوى الصراخ.

ما قاله أبو عبيدة لم يكن جديدًا، لكنه أتى من مكان مختلف: من الخندق، من تحت الأنقاض، من قلب غزة التي لم تعد تحتمل. كانت رسالته أن من لا يتكلم اليوم، فسيكون شريكًا في الجريمة، ومن يصمت على جوع المحاصَرين، فهو ظالم، حتى لو كان يحمل ألقاب “العلم” و”الفتوى”.

لم يطلب القسام السلاح، بل الكلمة. ولم يطلبوا الجيوش، بل أن يتحرك علماء الأمة، يصدحون بالحق، ويحركون الشعوب. فقد صار الجوع اليوم سلاحًا، وصار الخبز حلمًا، وصار الصمت خيانة مكتملة الأركان.

أبو عبيدة أعاد مخاطبة الأمة بلغة الجياع من أبناء غزة، فكانت كلمته، مؤلمة، وصادقة، لأنها جاءت من رجل يعيش الحصار، لا يتفرج عليه من شاشة أو منصة.

 

رسالة الإمام زيد وأبي عبيدة.. نداءان متجذران في وجدان الأمة

حين نقرأ رسالة الإمام زيد بن علي، ونقف أمام كلمة أبي عبيدة، نجد بينهما جسراً روحياً عميقاً يربط بين الماضي والحاضر، بين مدرسة أهل البيت التي واجهت طغيان بني أمية وروح المقاومة التي تواجه طغيان أمريكا و”إسرائيل” وأعوانهم من المنافقين والخونة داخل هذه الأمة. كلاهما يدعوان علماء الأمة إلى تحمّل مسؤولياتهم، لا أن يكونوا مجرد مظهر زائف، أو موظفين لصالح الظالمين.

الإمام زيد نبه علماء زمانه إلى خطر السكوت عن الجور، وحذرهم من أن يتحولوا إلى أداة بيد الظالمين، يشرعنون الظلم، ويطوّعون الدين حسب مصالحهم الشخصية أو الضغوط السياسية. نادى بضرورة الإصلاح، وضرورة أن يكون العلماء أهل تقوى وصلاح، حاملين للكتاب والسنة، لا يخافون إلا الله، ولا يبيعون دينهم بثمن بخس. وفي خطابه الموجع، نسمع صوت الإمام زيد الذي يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو جوهر الدين وركيزته، مشدداً على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي يحفظ للدين كينونته، ويمنع فساد المجتمعات.

أما أبو عبيدة، وهو صوت المقاومة الراهن، فهو يستكمل هذا المنهج، لكنه يضيف له بعداً مأساوياً وحقيقياً لا يمكن تجاهله: الصمت عن معاناة غزة هو خيانة عظمى، وعلماء الأمة الذين لا يتحركون، أو الذين يتفرجون على ما يجري، هم شركاء في الدماء والدمار. نادى صراحة بوقف هذا الخذلان، وبضرورة أن يكون العلماء – وكذا النخب السياسية – في صف الشعب، لا في صف الظالمين.

وهكذا، فإن الرسالتين تؤكدان على أن العلماء يجب أن يكونوا منارات للحق، حراساً للأمة، وجبهات دفاعها الأولى، لا أدوات تضليل أو أدوات طمس للحقائق. إنهما دعوتان للعودة إلى روح الإسلام الحقيقية، التي تدعو للعدل والمقاومة، والتضحية في سبيل الله والشعب.

هذه الرسالة المشتركة اليوم، هي أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، في زمن يرزح فيه المسلمون تحت وطأة الاحتلال والحصار، وتزداد فيه الحاجة إلى علماء حق لا يخشون إلا الله، وقادة ضمائر لا تبيع المواقف، ونخب تعمل لإحياء الأمة ونصرتها.