مأساةُ الشعب الفلسطيني سببُها القوى الاستعمارية الغربية، التي استخدمت الجمعيةَ العامة للأمم المتحدة لشرعنةِ جريمتِها بحق الشعب الفلسطيني، بإصدار قرار تقسيم أرض فلسطين العربية رقم (181) بتاريخ 29 نوفمبر سنة 1947م. وهذا القرار، وإن كان صادرًا شكلًا عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أنه صادر في حقيقة الأمر عن القوى الاستعمارية الغربية؛ فهذه القوى هي من تبنّى قرار تقسيم أرض فلسطين العربية، ومنحها دون وجه حق للعصابات الصهيونية الإجرامية.

ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، لم تقم على أرض الواقع دولة فلسطينية، ولم يقتصر الأمر عند حَــدّ انتفاء قيام دولة فلسطينية، بل إن سكان فلسطين تعرّضوا لجرائم إبادة جماعية منظمة على أيدي العصابات الصهيونية الإجرامية، وتهجير قسري برعاية القوى الاستعمارية الغربية، التي اكتفت -فيما يتعلق بأبناء الشعب الفلسطيني- بإنشاء ما سُمِّي حينها بـ”الأونروا”، ومهمتها الأَسَاسية تنظيم توزيع أبناء الشعب الفلسطيني على دول الجوار تحت ذريعة التشغيل والغوث.

ولا تزال “الأونروا” قائمة إلى اليوم، وبعد أن أحلتها القوى الاستعمارية الغربية بديلًا للدولة الفلسطينية، بالنسبة لمن تمسك من أبناء فلسطين العربية بأرضه، ها هي اليوم -وبعد أن انتهت مهمتها- وفي تبادل مكشوف للأدوار، يُعلن الكيان الصهيوني حظر أنشطة هذه المنظمة في الأراضي المحتلّة، لتتفاقم المأساة بحق أبناء الشعب الفلسطيني، ولتُترك الساحة خالية للكيان الصهيوني المجرم لتنفيذ فصول جريمته بحقهم.

وما ظهر على أرض الواقع في حينه، ووفقًا لقرار التقسيم الأممي الشكلي، مسمى (إسرائيل)، التي سارعت القوى الاستعمارية الغربية إلى الاعتراف بها، وكذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد حظي هذا الكيان الإجرامي بدعم القوى الاستعمارية الغربية في كُـلّ جرائمه بحق أبناء الشعب الفلسطيني، الذي اقتصر الدعم الغربي له حينها على المساعدة في إيجاد فرص عمل في دول الجوار، وهي مساعدة مموّهة من القوى الاستعمارية الغربية للكيان الصهيوني الإجرامي لتهجير أبناء الشعب الفلسطيني طواعية، كما يعلنها اليوم صراحة، دون تمويه، مجرم الإدارة الأمريكية ترامب.

والأصل، وفقًا لما هو متعارف عليه في نشأة الدول، ومسايرة لقرار التقسيم الأممي الشكلي، أن تنشأ الدولة الفلسطينية أولًا، ويتم الاعتراف بها أولًا، لاعتبارات تتعلق بكون شعبها متواجدًا فعليًّا على الأرض. وكان الأصل أن يُحجز القسم الخاص في قرار التقسيم بمسمى (إسرائيل) ويؤجَّل الاعتراف بها، إلى أن يتكوَّن ركن الشعب الذي تم جلبه من أصقاع الأرض، واختبار مدى توافر حالة الانسجام بين أفراده؛ باعتبَار ذلك شرطًا مهمًّا لتجسيد الروابط الداخلية. غير أن ما حدث هو العكس، فقد تم الاعتراف مباشرة بمسمى (إسرائيل)، ولم يتم الاعتراف بدولة فلسطين.

ولم يكن قرار التقسيم سوى ذريعة للاستيلاء على الأرض العربية وتهجير سكانها الأصليين. وما يؤكّـد ذلك أن القوى الاستعمارية الغربية التي تبنّت قرار التقسيم، واعترفت بمسمى (إسرائيل)، لم تعترف بدولة فلسطين منذ قرار التقسيم وحتى اليوم، بل إن تلك القوى قد غطَّت جرائم الكيان الصهيوني على مدى العقود الماضية. ولقد حيّرها وأذهلها وأحرجها مدى تمسك الشعب الفلسطيني بأرضه وإصراره على البقاء فيها مهما كانت التضحيات!

واليوم، وبعد أن بلغت تضحيات الشعب الفلسطيني ذروتها، بتكرار أفعال جريمة الإبادة الجماعية بحق سكان قطاع غزة يوميًّا وعلى مدار الساعة، منذ ما يقرب من عامين، وهي امتداد لجريمة الإبادة خلال العقود الثمانية الماضية، فَــإنَّ ما يميّز أفعال الجريمة الراهنة في قطاع غزة أنها لا تُروى من جانب الناجين منها، بل تُشاهَد على الهواء مباشرة من جميع سكان العالم، وعلى رأس المشاهدين صاحبة قرار التقسيم: منظمة الأمم المتحدة.

ويؤكّـد موقف الجمعية العامة للأمم المتحدة اليوم، مما تعرّض له ويتعرّض له أبناء غزة خُصُوصًا خلال اثنين وعشرين شهرًا، ومواقفها مما سبق أن تعرّض له أبناء الشعب الفلسطيني عُمُـومًا خلال العقود الثمانية الماضية، شكلية إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة لقرار التقسيم؛ باعتبَارها واجهة لجريمة القوى الاستعمارية الغربية. ولو كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة هي صاحبة القول الفصل في قرار التقسيم، لكانت قد اعترفت بدولة فلسطين قبل اعترافها بمسمى (إسرائيل)!

ولو كان قرارها ملزمًا، لكانت قد ألزمت جميع الدول الموافقة على قرار التقسيم بالاعتراف بدولة فلسطين، ولَمنعت العصابات الصهيونية من المساس بحقوق الشعب الفلسطيني في الأرض المقسومة له منها، ناهيك عن سكوتها على تهجيره وسفك دماء أبنائه على امتداد العقود الماضية.

كل ذلك يؤكّـد محورية دور القوى الاستعمارية الغربية في قرار التقسيم، فهي الراعية لإجرام الكيان الصهيوني الإجرامي بحق أبناء الشعب الفلسطيني، هذه القوى التي يتباكى بعضها اليوم ليس على جريمة إبادة أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بالقتل المباشر والقتل بالتجويع، بل على مسمى دولة فلسطين!

وقد جسَّد هذا التباكي الماكر “ماكرون” رئيس فرنسا، الذي وعد بالاعتراف بدولة فلسطين في شهر سبتمبر القادم، ليُذكّرنا هذا المخادع الماكر بالإعلان الأمريكي الفرنسي في سبتمبر من العام الماضي بوقف إطلاق النار على طول الحدود اللبنانية مع الأراضي الفلسطينية المحتلّة.

ولم تكن نتيجة الترويج لذلك الإعلان وقف إطلاق النار، بل كانت جريمة غادرة أصابت الأُمَّــة الإسلامية باستشهاد قائد المقاومة، أمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) وعددٍ من قيادات المقاومة الإسلامية في لبنان.

ويُذكّرنا ترويج الماكر المخادع “ماكرون” بنظيره المجرم “ترامب”، حين روّج لقرب التوصل إلى حَـلّ سياسي لمشكلة البرنامج النووي للجمهورية الإسلامية الإيرانية بوساطة دولة عُمان، ليتفاجأ الجميع بجريمة العدوان الغادر على الجمهورية الإسلامية. فما الذي تحمله الخديعة الجديدة المؤجلة إلى شهر سبتمبر من جانب الفرنسي المخادع الماكر ماكرون؟

ويُجرى حَـاليًّا الترويج للاعتراف بدولة فلسطين، وكأن الشعب الفلسطيني يعيش في حالة رفاهية لا نظير لها، وأن ما ينقصه لتكتمل لديه حالة الترف هو الاعتراف بدولة فلسطين! وهو ما يؤكّـد الدور الإجرامي المخادع والمضلِّل للقوى الاستعمارية الغربية. وقد تحدث عن هذا الدور بشكل مفصل قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي – يحفظه الله – في كلمته يوم أمس الخميس، واصفًا وعود القوى الاستعمارية الغربية بـ”السراب الذي يحسبه الظمآن ماء”، وبأنهم يبيعون “خبز الشمس للعرب”، ويرسمون لهم في الهواء وعلى الماء!

والمعلوم أن فرنسا وغيرها من القوى الاستعمارية الغربية قد زوّدت الكيان الصهيوني المجرم، ولا تزال، بمختلف أنواع القنابل والصواريخ التي استخدمها في إبادة أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. وليس ذلك فحسب، بل إن هذه القوى تمدّ الكيان الصهيوني المجرم بالأموال وكافة وسائل استقرار وضعه الداخلي، ليتفرغ لأفعال جريمة الإبادة الجماعية لأبناء الشعب الفلسطيني، بالقتل المباشر باستخدام الأسلحة التي زُوّد بها من تلك القوى، والقتل بالتجويع، اعتمادًا على الغطاء السياسي الذي توفره له القوى الاستعمارية الغربية.

وحين تحَرّك الضمير العالمي مستنكرًا ومدينًا للأفعال الإجرامية التي تعرّض لها ولا يزال يتعرض لها أبناء الشعب الفلسطيني، تحَرّكت بالمقابل القوى الاستعمارية الغربية، بالحديث الشكلي عن الاعتراف بدولة فلسطينية، لحرف توجّـه الرأي العام العالمي، ولتُغطي هذه القوى على شراكتها في الجريمة من جهة، وتصرف الرأي العام عن التركيز على الجريمة ومقترفها وشركائه فيها من جهة أُخرى.

وتساعد هذه القوى في تضليلها الأنظمة العربية الوظيفية، التي لا يقل دورها في الشراكة بالجريمة عن دور القوى الاستعمارية الغربية، وعلى رأس هذه الأنظمة النظام السعوديّ!

وخلال الأسابيع الثلاثة الماضية، يلاحظ المتابع كيف تم رفع سقف الآمال في تصريحات ممثلي القوى الاستعمارية الغربية -في مختلف مستويات السلطة فيها- عن فرص ما سُمِّي بتحقيق السلام ووقف إطلاق النار في مفاوضات الدوحة. وبشكل مفاجئ، أعلن المجرم “ويتكوف” موفد الرئيس الأمريكي فشل تلك المفاوضات، محمِّلًا “حماس” مسؤولية ذلك الفشل.

وتبع ذلك مواقف متعددة ومتناقضة لـ”ترامب”، مجرم الإدارة الأمريكية، أنكر في بعضها وجود مجاعة في قطاع غزة، وسبق له ولسلفه إنكار وجود إبادة جماعية في القطاع!

وهذا التناقض والانحراف القِيَمي الخطير، لو استمر في ذات الاتّجاه، كان من شأنه أن يُحرّك الرأي العام بشكل واسع ضد مواقف القوى الاستعمارية الغربية. لكن الطباخ البريطاني الماهر استدرك الأمر، وسارع للقاء المجرم “ترامب” في البيت الأبيض، وحثّه على التراجع عن موقفه السابق المنكر للمجاعة في قطاع غزة، وهو ما تم فعلًا، حين أقرّ المجرم “ترامب” بوجود المجاعة في القطاع.

ولا يعني ذلك أن الطباخ البريطاني بقي لديه شيء من القيم الإنسانية لا يتوافر مثله للمجرم “ترامب”، فالجميع فاقد لكل القيم الإنسانية.

والفرق أن “ترامب” مجرم الإدارة الأمريكية متعجرف، يعتمد على القوة الغاشمة في حرق المواقف في أي اتّجاه كان، في حين أن الطباخ البريطاني يعتمد الهدوء في إنضاج طبخاته الإجرامية.