أفق نيوز
الخبر بلا حدود

حين تحطمت هيبة الأساطيل الأمريكية… اليمن يرسم ملامح معادلة بحرية جديدة

14

أفق نيوز|

منذ عام 2023، بدأت العمليات البحرية اليمنية الاستراتيجية إقفال تدريجي للممرات البحرية التي تستخدمها السفن المرتبطة بالعدو الإسرائيلي أو الولايات المتحدة، اسناداً لغزة، حيث دخلت المسيّرات البحرية والجوية والصواريخ المجنحة كأدوات رئيسية في المعركة، ما أحدث تحولًا في معادلة القوة البحرية الكلاسيكية وحمل تداعيات بعيدة المدى تمس مكانة الولايات المتحدة عالميًا، وتعكس نهاية مرحلة الهيمنة البحرية الأمريكية المطلقة.

وتعتمد واشنطن على حاملات الطائرات الضخمة وأنظمة الدفاع الباهظة، حيث أظهرت التجربة أن الأسلحة منخفضة التكلفة يمكنها إرباك أقوى الأساطيل في العالم، في خطوة جعلت اليمن فاعلًا إقليميًا صاعدًا يعيد رسم التوازنات العسكرية والسياسية في المنطقة.

ووفق الخبير العسكري اللبناني العميد عمر معربوني، فقد أدخل اليمن سلاحًا نوعيًا إلى ساحة الحرب، عبر استخدام المسيّرات الانقضاضية في بيئة بحرية، أي خارج المعادلات التقليدية”، في خطوة واستخدام لم يسبق له مثيل في المنطقة، في وقت فشلت فيه الأساطيل الأمريكية في تحقيق “هيمنة السيطرة”، واضطرت أكثر من مرة إلى الانسحاب التكتيكي أو تعديل مواقعها، كما حدث لحاملة الطائرات آيزنهاور، التي أعيد نشرها أكثر من مرة بعيدًا عن مدى الصواريخ اليمنية.

الأبعاد العسكرية السياسية والإستراتيجية

ويعد أبرز ما كشفه الميدان هو تغيير مفهوم الردع أو انهيار مفهوم الردع الكلاسيكي الذي يقوم على التفوق التكنولوجي والقدرة على الحسم السريع،  حيث أن اليمن نقل الصراع إلى مستوى الردع اللامركزي، حيث تدار العمليات من وحدات صغيرة، متنقلة، غير قابلة للاستهداف المباشر، تعتمد على الذكاء الصناعي والتوجيه الذاتي للمسيّرات، بالإضافة إلى التحول في موازين الكلفة، حيث تُظهر المعادلة الجديدة أن كل صاروخ أو مسيّرة يمنية تُطلق بكلفة تقدّر ببضعة آلاف من الدولارات، بينما تتطلب اعتراضها منظومات دفاعية أمريكية تكلف مئات الملايين من الدولات، وبذلك أصبحت الحرب استنزافًا اقتصاديًا طويل المدى، تفقد فيه واشنطن ميزة التفوق المالي والعسكري معًا.

وعملت العلميات العسكرية اليمنية الاسنادية على إعادة تعريف الجغرافيا العسكرية، فللمرة الأولى، تتحول الجغرافيا اليمنية إلى منصة هجومية تمتد آثارها عبر البحار الثلاثة: الأحمر، العربي، والمتوسط.

ويملك اليمن اليوم يملك القدرة على “قطع الخطوط البحرية بين الشرق والغرب”، مما يجعل من باب المندب محورًا استراتيجيًا يعيد صياغة الأمن العالمي.

ومن الناحية السياسية والاستراتيجية فقد تآكلت الهيمنة الأمريكية، والتي اعتمدت عليها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية على مبدأ “الهيمنة البحرية كأساس للنفوذ السياسي”.

لكن فشل الأساطيل الأمريكية في فرض السيطرة على البحر الأحمر أضعف هذا المبدأ، وأجبر واشنطن على التحول من الإخضاع إلى التفاوض، بل والانسحاب والهزيمة.

وهذا ما سماه العميد معربوني “ربط النزاع بدلاً من الإخضاع”، أي أن أمريكا لم تعد قادرة على فرض إرادتها بالقوة، بل باتت مضطرة للتعامل مع اليمن كطرف فاعل له شروطه.

 الموقف اليمني وانعكاسه على التحالفات الإقليمية

لم يعد اليمن مجرد ساحة صراع داخلي، بل أصبح مؤثرًا في رسم خرائط الجغرافيا السياسية الإقليمية عبر حضوره فرض سيادته على الممرات الحيوية الهامة والتي جعلته شريكًا قسريًا في معادلة الأمن البحري العالمي، وهو ما عبّر عنه معربوني بقوله: “اليمن اليوم شريك غصبًا عن الجميع في رسم معالم الجغرافيا السياسية”.

و اللافت أن التحركات الأمريكية في البحر الأحمر أعادت خلط الأوراق بين دول الإقليم، فالسعودية والإمارات، اللتان كانتا تراهنان على تحجيم نفوذ اليمن، باتتا أكثر حذرًا من الانخراط في مواجهة بحرية قد تتسع بينما وجدت إيران وروسيا والصين في هذه التطورات فرصة استراتيجية لتقويض النفوذ الأمريكي وتعزيز مشروع التعددية القطبية.

ومن حيث البعد الزمني فالتطورات الحالية تمثل بداية مرحلة انتقالية في مفهوم الحرب، حيث تنتقل المواجهات من معارك الجيوش الضخمة إلى صراعات تقنية تعتمد على الذكاء الصناعي والطائرات غير المأهولة، وإذا استمر هذا المسار، فالعقد القادم قد يشهد نهاية “عصر حاملات الطائرات” بوصفها مركز القوة المطلقة.

أما جغرافيا فالبحر الأحمر لم يعد مجرد ممر تجاري، بل تحول إلى جبهة صراع استراتيجي مفتوحة تمتد من مضيق باب المندب حتى قناة السويس وأصبح اليمن اليوم يمتلك ميزة “الموقع الحاكم”، أي أنه يستطيع عبر بضعة أميال بحرية أن يغيّر مسار التجارة العالمية بأكملها.

التداعيات الإقليمية والدولية

 و فيما يخص التداعيات فقد تراجعت الثقة في قدرة واشنطن على حماية الممرات البحرية، وخلق أزمة نفسية داخل المؤسسة العسكرية بسبب فقدان عنصر “الهيبة”، وتآكل الردع الأمريكي أمام خصوم أصغر حجمًا وأكثر مرونة على مستوى الداخل الأمريكي.

أما على مستوى حلفائها الإقليميين، وموازين القوى العالمية فقد تصاعدت المخاوف لدى الكيانات المتحالفة مع واشنطن من أن تُترك مكشوفة عسكريًا، إلى جانب الضغوط الاقتصادية المتزايدة نتيجة الحصار اليمني المفروض على العدو الصهيوني في الجو والبحر، وكذلك فتح المجال أمام صعود قوى جديدة في النظام الدولي غير المتماثل، وإضعاف أدوات السيطرة التقليدية (الأسطول، القواعد، الحظر البحري” ما غير من موازين القوى العالمية حسب معربوني.

و في جانب السيناريوهات المتوقعة فاحتمالية قيام واشنطن بتوسيع المواجهة عبر تحالف بحري دولي، وهو ما قد يؤدي إلى احتكاكات مع روسيا أو الصين، في تصعيد دولي له مخاطر اقتصادية من حيث رفع كلفة النقل والتأمين البحري، ما قد ينعكس على أسعار الطاقة والتجارة العالمية.

في الجانب الاخر ثمة احتمالية التفاوض الاستراتيجي والتي تستند مؤشراته على أن بعض القوى الغربية بدأت تبحث عن تفاهمات أمنية غير مباشرة مع اليمن عبر وسطاء إقليميين.

في المحصلة أدخل اليمن العالم إلى مرحلة جديدة من الحرب، لم تعد فيها القوة النارية أو عدد الأساطيل معيارًا للحسم، بل الذكاء العملياتي والتكتيك غير المتماثل، ما وضع الولايات المتحدة أمام تحد كبير، فاليمن تمكن من تحويل موقعه من دولة محاصرة إلى قوة بحرية سياسية مؤثرة وأجبر العالم على الاعتراف بفاعليته في الأمن الدولي.