كيف يستخدم الاحتلال تجويع غزة كسلاح بيولوجي؟
أفق نيوز|
يُفاقم الاحتلال الصهيوني الوضع الإنساني في قطاع غزة بشكل متعمد، من خلال سياسات ممنهجة تُقيّد دخول الغذاء والماء والدواء، مما يجعل من التجويع أداة سلاح موجهة ضد المدنيين.
ويُستخدم هذا السلاح غير التقليدي ضمن استراتيجية عسكرية أشمل تهدف إلى إنهاك السكان وفرض الإرادة السياسية والعسكرية للعدو، في تجاوز صريح للقوانين الدولية التي تحظر استخدام الجوع كوسيلة وسلاح لمحاولة كسر إرادة شعب أو فرض ما فشل فيه العدو الصهيوني عسكريًّا.
ويتدهور الوضع الإنساني بشكل كارثي في القطاع في ظل سياسة التجويع الصهيونية، وهو ما انعكس على تَصاعد أعداد الوفيات، خصوصًا بين الأطفال والنساء والمرضى، ففي الثاني والعشرين من أغسطس 2025، أعلنت منظمات الأمم المتحدة المعنية بالصحة والغذاء – الفاو، اليونيسف، برنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الصحة العالمية – أن قطاع غزة يعيش المجاعة في أشد مراحلها، موضحةً أن أكثر من 700,000 شخص في شمال القطاع يعيشون بالفعل تحت ظروف تنطبق عليها معايير المجاعة القصوى وفق تصنيف الأمن الغذائي العالمي.
وتشير التوقعات إلى أن هذا الرقم سيتجاوز 940,000 بنهاية سبتمبر، مع تصاعد الكارثة واستمرار الحصار وغياب أي تدخل فعّال.
في القطاع بأكمله، نحو 1.34 مليون شخص مصنّفون في مرحلة “الطوارئ الغذائية”، أي على حافة المجاعة، في حين يعيش 596,000 في مرحلة الكارثة، بما يعني أن حوالي 2.2 مليون فلسطيني، أي كل سكان غزة، يعيشون في درجات متفاوتة من الجوع الشديد.
ويظهر حجم الكارثة الصحية والغذائية في الوجوه المنهكة، في أجساد الأطفال الهزيلة، وفي المخابز المغلقة، والأسواق الفارغة، والمراكز الصحية التي لا تملك إلا الماء والدموع، حيث يدفع الأطفال الثمن الأكبر، ففي يوليو وحده، تم تسجيل أكثر من 12,000 حالة سوء تغذية حاد لدى الأطفال دون سن الخامسة، من بينهم 2,500 في حالة خطيرة تهدد حياتهم مباشرة.
ويُتوقَّع أن يصل عدد الأطفال الذين سيحتاجون إلى علاج خلال العام المقبل إلى 91,000، ما لم يتغير الوضع، فالحوامل والمرضعات لسن بمنأى، إذ إن أكثر من 55,000 منهنّ معرّضات لسوء تغذية حاد، وهو ما يعني كارثة متعدية التأثير على الأمهات والمواليد معًا.
وتصاعدت الوفيات الناتجة عن الجوع بشكل صادم، ففي الأشهر الأولى بعد تشديد الحصار الصهيوني، وثقت منظمة الصحة العالمية وفاة 57 طفلًا نتيجة سوء التغذية، لكن بحلول سبتمبر، بلغ عدد الضحايا الذين ماتوا بسبب الجوع 293 شخصًا، من بينهم 96 طفلًا، وفق ما أوردته تقارير الأونروا واليونيسف، مع الإشارة إلى أن العدد الحقيقي قد يكون أكبر؛ لأن آلاف الحالات لا تُسجّل، إما لغياب الطواقم الطبية، أو لصعوبة الوصول إلى المستشفيات، أو لأن كثيرًا من الضحايا يموتون بصمت داخل منازلهم، دون حتى شهادة وفاة.
سياسة واستراتيجية مدروسة
ويمضي الاحتلال الصهيوني في استخدام الجوع كسلاحٍ ممنهج ضد سكان قطاع غزة، ضمن محصلة ونتيجة مباشرة لقرارات متعمدة تهدف إلى إغلاق المعابر، وعرقلة دخول المساعدات، واستهداف البنية التحتية للإنتاج الغذائي، ومنع وصول الوقود والمياه والأدوية، ذلك، يتحول التجويع إلى سياسة استراتيجية مدروسة تُنفّذ بوعي وتخطيط؛ إذ يمنع الاحتلال بشكل مستمر دخول مئات الشاحنات المحمّلة بالإمدادات الغذائية والطبية، ويقصف منشآت الزراعة ومخازن الأغذية، ويُعطّل عمل شبكات الكهرباء ومحطات تحلية المياه، ويُغلق المعابر الإنسانية لأيام متتالية دون وجود مبررات أمنية حقيقية.
ويُوظّف الاحتلال سياسة التجويع لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية واضحة؛ فهو يستخدم التجويع أداة ضغط مباشر على المقاومة الفلسطينية، ووسيلة لإرهاق السكان ودفعهم نحو الانهيار الاجتماعي والنفسي، وكجزء من مخطط تهجير قسري يهدف إلى تفريغ القطاع ودفع سكانه نحو النزوح باتجاه الحدود.
ويؤكد مايكل فاخري، المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء، أن ما يجري في غزة يمثّل مجاعة من صنع الإنسان، مشددًا على أن هذه السياسات ترتقي إلى مستوى جرائم حرب، وتُصنّف أيضًا كجرائم ضد الإنسانية، بما تمثّله من استهداف مباشر للمدنيين وحرمانهم المتعمد من الحق في الحياة.
الاثار والتداعيات
القانون الدولي واضح في هذا الصدد، فالمادة 54 من البروتوكول الأول الإضافي لاتفاقيات جنيف تنص على حظر تجويع السكان المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، كما تُعد عرقلة وصول المساعدات الإنسانية جريمة، وعلى أثر السياسات الميدانية، فإن ما يجري في غزة يمكن توصيفه كجريمة متكاملة الأركان.
وتتطابق الآثار البيولوجية الناتجة عن الجوع الحاد في نتائجها مع نتائج الأسلحة البيولوجية غير التقليدية، من حيث ضعف المناعة، وتفشي الأمراض المعدية، وتوقف النمو العقلي والجسدي للأطفال، والموت البطيء للمرضى وكبار السن والرضّع.
ويقول فاخري في تقرير مفصَّل إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة إن هناك ابتكارات صهيونية وتقنيات التجوع جديدة تُستخدم ضد الفلسطينيين مثل الاستهداف المباشر للمجوعين بالرصاص الحي في مراكز توزيع المساعدات.
ويضيف أنه من خلال متابعات الوقائع والمقاييس فإن الاحتلال الصهيوني لا يستخدم الجوع كسلاح عسكري فقط، إذ يستخدمه كسلاح بيولوجي صامت، لكنه أكثر فتكًا من كثير من أدوات العدوان الصهيوني على غزة.
من جانبه يشدد الخبير القانوني والأكاديمي عادل يمين: أن الحصار والتجويع جريمة حرب نصت عليها اتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي، وأن المحكمة الجنائية الدولية مختصة بملاحقة المجرمين الصهاينة، لا فتا إلى أن العائق الأكبر هو غياب آليات التنفيذ والإرادة السياسية، مشيرًا إلى أن الصمت الدولي يشجع على الإفلات من العقاب.
ويصف الدكتور محمد طي تداعيات استخدام التجويع أداة إبادة ممنهجة، بالخطيرة على الفلسطينيين والتي قد تفوق في خطورتها العدوان العسكري الصهيوني والقصف بطائراته الحربية، محذّراً من أن استمرار الوضع سيجعل القانون الدولي مجرد غطاء شكلي بيد القوى الكبرى، مؤكدًا أن غياب العدالة يدفع الشعوب المظلومة للبحث عن بدائل نضالية.
وهو ما يؤكده الكاتب والخبير في الشؤون الاستراتيجية باسم القاسم حيث يبين أن سياسة التجويع الصهيونية في غزة جريمة حرب تهدف للتهجير وتكشف فشل القضاء الدولي وانحياز الغرب. مؤكدا أن الفيتو الأمريكي وتسييس العدالة سمحا باستمرار الاحتلال دون محاسبة، مضيفا أن القانون الدولي أصبح أداة انتقائية بيد الدول النافذة، وأن الاحتلال الصهيوني يستغل الانحياز الدولي لفرض وقائع جديدة فشل في فرضها عسكرياً.