نقف اليوم وقفة إجلال وإعظام أمام مقامٍ سامٍ لا تطاله الكلمات، ولا تعبّر عنه العبارات، مقامٍ تعجز أمامه الأقلام وتنحني له الأرواح خاشعةً ومُوقّرة، مقام الشهداء في سبيل الله، أُولئك الذين نالوا أعظم وسام يمكن أن يناله إنسان: وسام القرب من الله ورضوانه.

ما أكرمهم وما أعظمهم! لقد جسّدوا الإيمان في أبهى معانيه، وعبّروا عن الانتماء بدمائهم الطاهرة لا بشعارات تُقال ولا بخطب تُلقى. صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فكانوا المثال الأسمى للثبات في الميدان، يوم تزلزلت القلوب وتراجع الضعفاء، ثبتوا كالجبال وصمدوا في وجه أعتى الطغاة، وتركوا للأجيال دروسًا خالدة في الإباء والعزة والوفاء.

إننا حين نقف في حضرة الشهداء، نصمت إجلالا، لأن الكلمات مهما سمت تظلّ عاجزة عن الوفاء بحقهم، والمشاعر مهما تفجّرت لا تستطيع أن تبلغ عظمة ما قدّموا. لقد اختارهم الله لجواره واصطفاهم لمقاماتٍ عاليةٍ في عليين، فهم من استُضيفوا في رحاب الأنبياء والصديقين والصالحين، وحسن أُولئك رفيقًا. ضحّوا بكل ما يملك الإنسان من متاعٍ دنيوي، وقدموا أغلى ما يملك المرء: روحه، فاستحقوا أن يُكتبوا في سجلّ الخلود بمدادٍ من نور.

لقد جفّت الأقلام وهي تكتب عن تضحياتهم، لأن عطائهم أكبر من أن يُدوّن في الكتب، وأوسع من أن يُختصر في سطور. بدمائهم كتبوا للعزة عنوانًا خالدًا، وبشجاعتهم أعادوا للأُمَّـة هيبتها التي حاول الأعداء طمسها. وقفوا في وجه الباطل يوم خاف الآخرون، وصمدوا في وجه الطغيان يوم تراجع الجبناء، فسالت دماؤهم لتروي أرض الكرامة وتُزهِر نصرًا للأحرار. بدمائهم الطاهرة أوقفوا الظالم عند حدّه، وقطعوا يد الطامع، وأعادوا للأُمَّـة عزّتها المفقودة، وجعلوا من أجسادهم جسورًا لعبور الأحرار نحو وعد الله، فمهّدوا الطريق بالنور والدم، وبالصدق واليقين.

من ذا الذي يمكن أن يكرم الأُمَّــة كما أكرمها الشهداء؟ لقد قدّموا أرواحهم دون تردّد، وبذلوا دماءهم بسخاء، ووقفوا على خط النار لا يريدون جزاءً ولا شكورًا. كرمهم فاق العطاء البشري، لأنهم لم يمنحوا الدنيا شيئًا، بل منحوا الله كُـلّ شيء. فكانوا بحق صفوة عباد الله، الذين جعلوا من التضحية عبادة ومن العطاء طريقًا إلى الخلود.

واليوم، ونحن نعيش بفضل ما قدّموه وننعم بالأمن والكرامة التي صنعوها بدمائهم، علينا أن نسأل أنفسنا: كيف نردّ هذا الجميل؟ إن أقل ما نقدمه هو أن نواصل دربهم، ونحمل رايتهم، وننهج نهجهم في الصدق والإخلاص والجهاد في سبيل الله. علينا أن نرعى أبناءهم وأسرهم، فهم أمانة في أعناقنا، وسنسأل عنهم يوم نقف بين يدي الله، فمن خان أمانة الشهيد فقد خان دمًا طاهرًا سُفك ليحيا هو.

الشهداء أحياء عند ربهم يُرزقون، ونحن نحيا على أرضٍ سُقيت بدمائهم، وننعم بخيرٍ صُنع بتضحياتهم. إنهم الذين أضاءوا لنا دروب الظلام، وزرعوا فينا بذور الكرامة التي لا تموت. فليكن عهدنا معهم أن نبقى أوفياء، وأن نحافظ على مبادئهم، وأن نحمل رسالتهم بصدقٍ وإيمان، وأن نظلّ على الدرب حتى يتحقّق وعد الله بالنصر والتمكين، وتظلّ راية الحق مرفوعة لا تنكسر، بفضل الله ثم بفضل أُولئك الذين وهبوا حياتهم لتبقى حياة الأُمَّــة.

المجد والخلود للشهداء الأبرار، والنصر والكرامة للأوفياء السائرين على دربهم.