الجغرافيا العربية الممتدة من العراق شرقًا إلى موريتانيا غربًا، كانت إلى ما قبل أكثر من سبعة عقود من الزمن متصلة لا تعترض أبناء الشعوب العربية المتنقلين عبرها أيةُ عوائق طبيعية تحول دون انتقالهم بحرية في هذه الجغرافيا.

وهذه الميزة المهمة جهلها أَو تجاهلها العرب -حكامًا وشعوبًا-، وتنبَّه لها الغربُ الاستعماري، الذي أدرك صعوبة السيطرة على هذه الجغرافيا طالما ظلت متمتعة بميزة الاتصال من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، ولتعطيل هذه الميزة وما يترتب عليها من قيمة ذهبية لوحدة شعوب الأُمَّــة العربية، عملت القوى الاستعمارية الغربية قبل سبعة وسبعين عامًا على زرع كيان غريب في قلب الجغرافيا العربية شطر وحدتها الطبيعية إلى شطرَين، وأصبح منذ ذلك الحين وحتى اليوم عائقًا مصطنعًا أمام تنقل أبناء الشعوب العربية من الشرق إلى الغرب والعكس، وليس ذلك فحسب بل تمكّنت القوى الاستعمارية الغربية من خلال تموضع قاعدتها الاستعمارية في قلب الأُمَّــة العربية من تمزيق شعوبها والسيطرة عليها.

وحين تجاهلت الشعوبُ العربية خطورة الحقيقة الماثلة المتمثلة في زراعة الكيان الصهيوني في جغرافيتها الواحدة الموحدة دفعت ثمنًا باهظًا في حينه تمثل في فقدان هذه الجغرافيا لميزة الاتصال بعد شطر وَحدتها إلى شطرَين، ولم تقف خسارة الشعوب العربية عند ذلك الحد، بل بدأ الكيان الصهيوني ومن خلفه القوى الاستعمارية الغربية بقضم الجغرافيا العربية من جميع الجهات المحيطة بكيان الاحتلال الصهيوني، ولم تكتف القوى الاستعمارية الصهيوغربية بذلك، بل إنها عملت وعلى مدار العقود التالية لتأسيس الكيان الصهيوني الإجرامي على تثبيط الشعوب العربية ومنعها من التحَرّك بإيجابية نحو تحرير الأرض العربية وإزالة الخطر المصطنع المزروع في قلب جغرافيتها المتمثل في الكيان الصهيوني المزروع على أرض فلسطين العربية المحتلّة.

والحقيقة المُرة المؤلمة أن القوى الاستعمارية الغربية تمكّنت فعلًا من تقسيم الجغرافيا العربية الواحدة الموحدة إلى دويلات متناحرة، وأقامت على رأس كُـلّ قسم من هذه الأقسام نظامًا وظيفيًّا تابعًا ومرتهنًا لهذه القوى، تمثَّلت المهمةُ الأَسَاسية لكل نظام في قمع كُـلّ تحَرّك شعبي مناهض للوجود الاستعماري الصهيوغربي في الجغرافيا العربية، ولمزيد من الفرقة والتمزق بين شعوب الأُمَّــة العربية تعمدت القوى الاستعمارية الغربية تقسيم الشعوب العربية على أَسَاس الفوارق الكبيرة في الفقر والغنى؛ فنجد أن شعوبًا كبيرةً في حالة فقر مدقِع وشعوبًا صغيرة في حالة ثراء فاحش، وزرعت القوى الصهيوغربية الأنانية المفرطة لدى هذه الشعوب؛ فلا تتحَرّك تجاه الشعوب الفقيرة لا بدافع الأُخوَّة في الدين ولا بدافع العروبة ولا بدافع الجوار الجغرافي!

ولا مشكلة لدى الأنظمة القائمة على الحكم في هذه الشعوب أن تذهب موارد شعوبها للقوى الاستعمارية الصهيوغربية، وأن تحرم منها الشعوب الفقيرة المجاورة، والحقيقةُ المُرة التي تجاهلتها الشعوب العربية الثرية أن هذا التقسيم لم يكن حُبًّا من هذه القوى في أن تكون شعوبًا غنية متخمة صناعية ومتقدمة؛ بل مِن أجلِ أن يسهل عليها السيطرة على جل مواردها، وأن أبقت لها فُتاتًا قليلًا من هذه الموارد فذلك نظير حراستها لها.

والحقيقة الأخطر التي تجاهلتها الشعوب العربية الثرية أن القوى الاستعمارية الصهيوغربية ومنذ عقود لم تعد تعتمد لا على هذه الشعوب ولا على الأنظمة القائمة على حكمها في حراسة موارد الثروة فيها، بل إن هذه القوى تواجدت بشكلٍ مباشرٍ على جغرافية هذه الشعوب ليس لتوفير الحماية لها ولا للأنظمة الحاكمة فيها، بل لحماية الموارد والثروات؛ ليس باعتبَارها حَقًّا مستحقًّا لهذه الشعوب؛ بل باعتبَارها مصالحَ للقوى الاستعمارية الصهيوغربية، التي أصبحت ترفع هذا الشعار في وجه الجميع، وبالنتيجة فتجاهل الشعوب العربية الخليجية تحديدًا لهذه الحقيقة ترتّب عليه احتلال مباشر من جانب القوات العسكرية للقوى الاستعمارية الصهيوغربية -تحديدًا الأمريكية- لجغرافية هذه الشعوب والسيطرة بشكل مباشر على مواردها وثرواتها.

والأمرُّ من الحقيقة السابقة أنه ليس بمقدورِ الشعوب العربية الخليجية بوضعها الراهن الدفاع عن مواردها وثرواتها المنهوبة، وتحرير جغرافيتها المحتلّة، فليس بإمْكَانِ الشعب في نجد والحجاز، المسمَّى المملكة العربية السعوديّة الطلبُ إلى القوات الأمريكية مغادرةَ أراضيها، وليس بإمْكَان الشعب العربي في مسمَّى دولة قَطر الطلبُ إلى القوات الأمريكية إخلاء قاعدة العديد والمغادرة، وليس بإمْكَان شعبِ مملكة البحرين العظمى الطلبُ إلى الإدارة الأمريكية مغادرة قواعدها البحرية والجوية في البحرية، وليس بإمْكَان الشعب العربي في دويلة الكويت كذلك طلب مغادرة القوات الأمريكية لأراضيها، وذات الأمر ينطبق على شعب الإمارات فليس بإمْكَانه مطالبة القوات الأمريكية بالمغادرة.

فهذا هو حال شعوب دول الخليج، التي احتلت القوات الأمريكية جغرافيتها تحت عنوان حماية الأنظمة في البداية ثم انتهى الأمر برفع هذه القوات عنوان حماية مصالحها القومية، وهو ما يعني أن ثروات وموارد الشعوب العربية في الخليج أصبحت مصالح قومية للإدارة الأمريكية، وهذه حقيقة مرة، والأشد مرارة منها تجاهلها من جانب هذه الشعوب، التي لم تعد مهتمة في الوقت الراهن سوى بالمراقص والمسارح والحفلات الغانية الصاخبة!

وينطبق ما سبق على شعوب الدول العربية في العراق وسوريا والأردن؛ فجغرافية هذه الشعوب محتلّة حقيقة من جانب القوات الأمريكية، وثروات دولتَي العراق وسوريا ودماء شعبيهما مستباحة من جانب القوات الأمريكية؛ فشعار هذه القوات تجاه هذين الشعبَين هو ما لم يتم الرضوخ من جانبهما كما رضخت الشعوب الأُخرى في الدول الخليجية؛ فَــإنَّ الأمر سيتجاوز مُجَـرّدَ نهب الثروات والموارد إلى سفك الدماء أنهارًا كنهرَي دجلة والفرات.

وحين كشفت عملية (طوفان الأقصى) للشعوب العربية في منطقة الخليج وغيرها حقيقة الأنظمة الحاكمة، لم تتحَرّك هذه الشعوب وتجاهلت كون أنظمتها الحاكمة عبارة عن كيانات وظيفية تدين بالولاء والتبعية للقوى الاستعمارية الصهيوغربية، التي وصفت أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بأنهم حيوانات بشرية، وأنه يجب التعامل معها على هذا الأَسَاس، والحقيقة المُرَّةُ أن هذا الوصف لا يقتصر على أبناء الشعب الفلسطيني، بل يستغرق شعوب الأُمَّــة العربية جميعها؛ فهذه هي نظرة القوى الاستعمارية الصهيوغربية للشعوب العربية بأنها حيوانات بشرية، وأن التمييز بينها وقتي فقط؛ فبعضها أليفة يمكن الانتفاع بها من وجهة نظر هذه القوى، وبعضها شرسة متوحشة يتوجب التخلص منها، والأمرُّ من هذه الحقيقة أن التصنيفَ أَو التمييزَ بين الشعوب العربية مؤقت؛ فما يعد اليوم حيوانات أليفة يمكن الانتفاع بها، ستكون غدًا ضارة يجب التخلص منها.

وما لم تستفِقِ الشعوبُ العربية من سُباتِها فَــإنَّ الدورَ قادم عليها لا محالة ولن تعدم القوى الاستعمارية الصهيوغربية الذريعة للتخلص منها لانعدام فائدتها أَو لظهور ضررها، فهذه القوى تدرك تمامًا حقيقة عدم قدرتها على مواجهة الشعوب العربية، إذَا كانت موحَّدة واعية مدركة للمخاطر المحدقة بها، ولن يتأتى لهذه الشعوب إدراك الحقائق المرة إلا بتحَرّك جاد من نخبها للالتفاف حول قيادة السيد عبدالملك بن بدر الدين الحوثي، الذي يخوض مع الشعب اليمني معركة وعي الأُمَّــة؛ فهذا الالتفاف كفيلٌ باستعادة الشعوب العربية لما أهدرته أنظمتها من عزتها وكرامتها وحريتها وسيادتها وثرواتها، والثأر لما سفكته القوى الاستعمارية الإجرامية الصهيوغربية من دماء أبنائها على مدى أكثرَ من سبعة عقود من الزمن.