في غزة: بات الخبز حلمًا والطحين أمنية
أفق نيوز|
بشرى حمود الهمداني
في زمن تتناقل فيه الأخبار بسرعة الضوء، وتُقدم فيه الأطعمة الفاخرة على موائد العالم، يترسخ واقع آخر، مظلم ومؤلم، في بقعة جغرافية صغيرة اسمها غزة، هنا، في هذا القطاع المحاصر من قبل الكيان المجرم، انقلبت الموازين، وتغيرت معاني الكلمات؛ بات الخبر حلماً والطحين أمنية.
لم يعد الحصول على “الخبز” في غزة الجريحة يعني مجرد معرفة آخر التطورات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، لقد تحول الخبز في القطاع إلى أمنية بسيطة، نادرة، وقيمة للغاية؛ أمنية الحصول على لقمة خبز طازجة تسد رمق الأطفال الجياع، أن يجد المرء خبزاً في هذا الوقت، يعني أنه نجا من ألم الجوع ليوم آخر، وأنه تمكن من توفير الحد الأدنى لعائلته في ظل ظروف تزداد قسوة يوماً بعد يوم. كل قطعة خبز هي خبر بحد ذاته، تخبر عن معركة يومية لكسب البقاء.
أما الطحين، فهو ليس مجرد مكون أساسي للمخبوزات؛ إنه الأمنية الكبرى، الحلم الذي يراود ملايين الفلسطينيين المحاصرين، الطحين يعني القدرة على تحويل هذه المادة الخام إلى خبز، إلى طعام، إلى أمل في النجاة من براثن المجاعة التي بدأت تتكشف ملامحها بوضوح، ففي ظل إغلاق المعابر، وتقييد دخول المساعدات الإنسانية بشكل ممنهج، تحول الطحين إلى سلعة نادرة، تُباع بأسعار خيالية إن وجدت، ويُصارع الآلاف من أجله في طوابير طويلة، قد تنتهي بمأساة أو بخيبة أمل.
إن ما يحدث في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل هو كارثة إنسانية متعمدة وممنهجة، تُستخدم فيها سياسة التجويع كسلاح حرب بدعك وتواطئ أمريكي وأوروبي، الأطفال الرضع يموتون بسبب سوء التغذية ونقص حليب الأطفال، والمرضى يفارقون الحياة لغياب أبسط المستلزمات الطبية، بينما يرى العالم هذا المشهد المأساوي بصمتٍ مخزٍ في كثير من الأحيان.
إن دعوات المجتمع الدولي المتكررة لفتح المعابر وإدخال المساعدات، تبدو وكأنها لا تلقى آذاناً صاغية لدى من يسيطر على الأرض، والإنزالات الجوية للمساعدات، ورغم رمزيتها، لا تفي بالحاجة الماسة لمليوني إنسان يعيشون تحت الحصار والدمار، فغزة بحاجة إلى آلاف الشاحنات يومياً من الغذاء والوقود والدواء، لا إلى قطرات متفرقة لا تسمن ولا تغني من جوع، أو مساعدات تلقى من الجو.
في غزة اليوم، كل يوم هو صراع من أجل البقاء، كل لقمة هي انتصار صغير على الموت، وكل بصيص أمل بفتح معبر أو دخول شاحنة هو ضوء في نفق مظلم، الخبز حلماً والطحين أمنية؛ عنوان يلخص مأساة شعب يُحرم من أبسط حقوقه الإنسانية، ويُترك وحيداً لمواجهة الجوع والدمار على مرأى ومسمع العالم المنافق، بينما تنتظر الإنسانية جمعاء صحوة ضمير لإنهاء هذا الكابوس.