المقامة الغزّية في محاكمة الأُمة العربية والإسلامية
عبد القوي السباعي
حكى الراوي، وساق الحرف على عَجَل، بلا توانٍ ولا كسل؛ فقال: دخلتُ مجلسًا يزهو بزخارف الأرائك، وتضجُّ أركانُه بأحاديث التوافه والمناكف؛ فدنوتُ من رجلٍ يزعم الحسب والنسب، ويدّعي الفضل والأدب؛ فقلت: يا هذا، أأنتَ مسلمٌ وعربيٌّ كما تُناديك ألقابك وتزخرفك أسماؤك؟
قال وهو يمسح شاربه بمنديلٍ معطّر الجنبات: نعم، مسلمٌ صِرف، وعربيٌّ قحّ، من سلالة من حملوا السيوف وخاضوا الغزوات.
قلتُ: إن كنتَ مسلمًا مغوار؛ فما أنت صانعٌ حين تُغتال غزة في وضح النهار، وتُذبح طفولتها بالتجويع والنار؟
قال: يوجعني الحال، وأبكي كَثيرًا وعن فقد ما أقدم محتار.. لكن أطمئن يا سيدي؛ فَــإنَّني أرفع الأكفَّ بالدعاء لهم في الأسحار، بعد أن أرى المقاطع والصور عبر الأقمار.
قلتُ: أوَصَارَ الإسلامُ دمعةً حائرة، أَو آهةً عابرة، في هكذا مواقف، أَو وَسْم “هاشتاق” في ساحات التلفزة وشاشات الهواتف؟!
أما سمعتَ قولَ الرسول الأعظم: “من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”، وقوله: “من سمع مناديًا ينادي يا للمسلمين فلم يُجِب فليس بمسلم”؟
فكيف تزعمون الإسلامَ وأنتم معه في خصام، وتعيشون عن دينكم الفصام، وفي ولائكم تميلون لليهودي والكافر، وأنتم لإخوانكم كما الخصم الفاجر، وفي عداوتكم تُبغضون الناصر؟!
– فنكَّسَ الرأس وأظهر اليأس، وراغ في سكون.. لم يدرِ ما يقول…؟!
سألتُه: هل خرجتَ يومًا في مظاهرةٍ أَو مسيرةٍ وجمهرة، أَو نصبتَ رايةً أَو صورةً أَو رفعت لافتة معبرة، أَو وقفت متحفزًا وباعتقاد؛ تحُضُّ على الجهاد وتدعو إلى الإعداد، أَو قاطعتَ سلعةً ترفد خزائن الأوغاد؟
فقال لي وقد تململ في قعدته وشدّ إزارَه: ما لي في ذاك شأن؛ فالأمر لأهل السياسة والتجارة.. قلت: بل الشأن شأنُك، والجار عنوانُك، والحياة نخوة، ودينٌ وأمانة، وموقف رادع وحصانة، والمروءة وفاء، والساكتُ شريكُ الباطل سواء.
ثم قلتُ: أأنتَ عربيٌّ حقًّا؟
قال: عربيُّ الجذور والفروع، ولا افتخار.. فقلت: أين العروبة من عروقك يا حمار.. حين تُذبَح غزة، ويُحاصَر إخوتك في ظمأ البحر وجوع الحصار؟!
أين أنت من نخوة قريش يوم قالوا في حصار الكفار للنبي وقومِه في “شِعب أبي طالب”: “أنلبس الثياب ونأكُلُ الأطايب، وبنو هاشم جوعى يتيهون في المضارب”؛ فتحَرّكت فيهم شهامةُ ونخوة كل طاعن وضارب.
أما أنتم أيها اللئام؛ فقد تركتم كُـلَّ شيء؛ فلا بقيتم على خُلُق الإسلام، ولا ورثتم نخوةَ الأجداد الكرام؛ بل جئتم بجاهليةٍ جديدة، ومفسَدة فريدة، تحللت من كُـلّ دين، قال عنها المصطفى الأمين: “أُخراهما شَرٌّ من أُولاهما”.
فقال في تأوُّهٍ وناح، وقدت بدت في صوته ملامح الجراح: ما العمل يا صاح…؟
هُنا بكى الراوي، وقال: يا من تسمع مقام الحال ونداء المقال، إن كنتَ مسلمًا فالمعركة معركتك، وإن كنتَ عربيًّا فالجرح جرحُك، وإن كنتَ إنسانًا فدم غزة دمك.
لا تجعلِ التاريخ يكتبْك في خانة المتفرّجين، ولا تدع أبناءَك يقرأون اسمَك بين سطور المتخاذلين، واعلم أن الأُمَّــةَ التي تخذل غزة اليوم، ستجد نفسَها غدًا على بوابات حصارها، تنتظر يدًا لم تمتد بعدُ؛ فمن خذلَ غزّةَ اليومَ، غدًا يبيتُ على حِصارِه.. ومن باعَ دمَها، اشترى ذُلَّه بثمنِ عارِه.