الاقتحامات المتكرّرة للأقصى وصمتُ الأُمَّــة
أفق نيوز|
عبدالله هاشم الذارحي
في قلب القدس الشريف، ترتفع قبلةُ المسلمين الأولى، وإليها أُسرِيَ بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
إنّه المسجد الأقصى، الذي باركه اللهُ في محكم كتابه، فقال عزّ وجلّ:
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأقصى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الإسراء: 1].
المسجد الأقصى ليس مُجَـرّد بناءٍ من الحجر، بل هو آيةٌ من آيات الله، ورمزٌ للهُوية الإسلامية، وعنوانٌ للكرامة العربية، وميراثُ الأنبياء الذي أُوكل إلى هذه الأُمَّــة لتصونه وتحميه.
لكن ما يجري اليوم من اقتحاماتٍ متكرّرةٍ وتدنيسٍ لحرمته، يمثّل اعتداء صارخًا على العقيدة، وعلى التاريخ، وعلى القانون الدولي والإنساني معًا.
لم تعد اقتحاماتُ الأقصى حدثًا عابرًا، بل أصبحت سياسةً ممنهجةً تنفّذُها سلطاتُ الاحتلال الصهيوني تحت غطاءٍ زائف يُسمّى “الزيارات الطقوسية”.
فكَثيرًا ما تبدأ الصباحاتُ المقدّسة باعتداءاتٍ وحشية: تُغلِقُ أبوابُ المسجد، وتُطلِقُ القنابلَ الصوتيةَ والغازية في ساحاته الطاهرة، وتُداس المصاحف بأقدام جنود الاحتلال في مشاهدَ تُمزّق القلوب وتشلّ الحسّ الإنساني.
واليوم 157 مستوطنًا صهيونيًّا، إضافة إلى 412 آخرين تحت مسمّى “السياحة”، اقتحموا المسجد الأقصى المبارك.. اقتحاماتٌ لا تهدف فقط إلى الاستفزاز، بل هي جزءٌ من مخطّط أكبر يسعى إلى فرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد، تمامًا كما حدث سابقًا في الحَرَم الإبراهيمي بالخليل.
الهدف واضحٌ: تهويد المكان، ومحوُ معالمه الإسلامية، وإلغاء أي حضورٍ عربيٍّ أَو فلسطينيٍّ فيه.
لكنّ الأكثر إيلامًا من بطش الاحتلال هو صمتُ الأُمَّــة.
صمتٌ عربيٌّ وإسلاميٌّ يوجع أكثرَ من الرصاص.
فبينما تُنتهَكُ حُرمة الأقصى في وضح النهار، وتُبثّ صور الاعتداءات على مرأى ومسمع من العالم، لا نرى من الأنظمة سوى بياناتٍ باهتةٍ تعبّر عن “القلق العميق” أَو “الإدانة الشديدة”، وكأن الأقصى مسجدٌ في كوكبٍ آخر، لا علاقة له بالأمة التي تحمل راية “لا إله إلا الله”.
كان الأقصى في الماضي شرارةَ حركةٍ للأُمَّـة، واليوم صار مرآةً لخِذلانها.
تُنتهك حرمته، وتُقتحم ساحاته، دون أن يتحَرّكَ سيفٌ أَو صوتٌ رسميٌّ يليق بعظمة المكان وحرمة الزمان.
لكن وسط هذا الصمت المُخزِي، ينهض أبطالُ القدس: المرابطون والمرابطات، رجالًا ونساءً، عُزّلًا إلا من إيمانهم، يواجهون جنودًا مدجّجين بالسلاح بصدورٍ عاريةٍ وتكبيراتٍ تُرعب المعتدين.
هؤلاء هم خط الدفاع الأول عن الأقصى، يقدّمون أرواحَهم فداءً له، ليعلّموا الأُمَّــةَ كلها أن القداسة لا تُصان بالبيانات، بل بالثبات والتضحية.
هم حرّاس السماء على الأرض، وضمير الأُمَّــة الحيّ في زمن الغفلة.
ومن المهم أن نُذكّر – ونحن نرى هذا التفريط – أن الدفاع عن المسجد الأقصى ليس شأنًا فلسطينيًّا فقط، بل هو واجبٌ شرعيٌّ على كُـلّ مسلم.
فالأقصى جزءٌ من عقيدتنا، ومن يفرّط فيه، يفرّط في دينه قبل أرضه.
ويُروَى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
«لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إلى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأقصى».
هذا الحديث ليس دعوةً للسفر فحسب، بل تأكيدٌ على مكانة الأقصى بين أقدس بقاع الأرض، وربطٌ روحيٌّ وأبديٌّ بين الأُمَّــة وقبلتها الأولى.
ختامًا، سيبقى الأقصى أمانة الأجيال.
تدنيسه ليس نهاية القصة، بل بداية الوعي.
فكلّ اعتداء عليه يجب أن يوقظ فينا روحَ المقاومة والوحدة، وأن يُذكّرنا بأن القدس ليست ورقةً سياسيةً تُساوم عليها، بل عقيدةٌ لا تسقط بالتقادم.
اليوم، الأقصى يستغيث بأمّته، ويناديها من قلب القدس:
“لا تتركوني وحيدًا بين أنياب الاحتلال!”
فمن ضيّع الأقصى، فقد ضيّع نفسه.
اللهم إني بلغت.. اللهم فاشهد.