وقف اليمن ذات يوم على حافة النار والبارود، ثم قفز منها إلى التاريخ صارخًا؛ هُنا شعبٌ لا يعرف معنى الركوع إلا لخالقه، هُنا وطنٌ لا يُؤخذ غصبًا، ولا يُدار بالوصاية، ولا يُشترى بالخوف؛ فاليمني لا يخضع إلا لربه، ولا يقبل أنّ يُقاد إلا لبوصلته، ولا يسلّم أرضه إلا لحفيده.

في الـ 30 من نوفمبر 1967م، وفي مثل هذا اليوم، انكسرت الإمبراطورية العظمى التي كانت الشمس لا تغيب عن راياتها، لكنها أفلت في عدن، عند شاطئ صغير ظنته بوابةً نحو الهند والعالم؛ فإذا به بوابةٌ نحو هزيمتها الأولى، يومٌ كان نهاية عهد الغطرسة والتجبّر، وبداية شعب تذوق طعم الحرية؛ فسعى لانتزاعها، ونقل اليمن من خانة الاستباحة والاحتلال إلى واحة الحرية والاستقلال.

في ذلك الجيل، كانت مدينة عدن معملاً لإنتاج الوعي الوطني، ومركز تنويرٍ ثوري، ونافذة على قيم الحرية، والتي اشتعلت لاحقًا في كل الجنوب اليمني المحتل، حتى نيل الاستقلال ورحيل آخر جندي بريطاني من أرض الوطن.

ورغم مرور 58 عامًا من الاستقلال، إلا أنّه لا يزال في جوهره يحدث كل عام، وكل يوم؛ فمن استقلال الأمس إلى استقلال اليوم، تأتي النسخة الأشد صلابة، حين وجد اليمن نفسه أمام محتلٍ جديد؛ بل أكثر استعلاءً وأكثر قبحًا.

أسماء الغزاة تغيّرت، لكن النية نفسها؛ “السيطرة، السطو، الوصاية، ونهب القرار والثروة”، ومن 1967م إلى 2025م، لم يغادر الاحتلال المنطقة، وإنّما غيّر قبعته، غيّر لغته وأدواته وأسماءه، وأصبح اسمه اليوم، “قوات التحالف العربي”، “تحالف دعم الشرعية”، “غرفة العمليات المشتركة”، و”التحالف الدولي لحماية الملاحة في البحر الأحمر”، لكنه ظلّ ذاته يريد استباحة السيادة ونهب الثروة، وكتابة القرار، وأنّ يُبقي اليمني تابعًا لا سيدًا.

المواجهات التي خاضها اليمن منذ 2015م، ليست إلا الاستقلال الثاني، استقلالاً لم يأتي على ورق، وإنّما على هدير الصواريخ والمسيرات، وصمود وثبات في وجه العدوان والحصار، ومثل إرادة شعب قرر أنّ يدافع حتى آخر قطرة من دمه.

شعبٌ يفهم أنّ المستعمر القديم والمحتل الجديد، وجّهٌ واحد لظلّ واحد؛ ففي 1967م، خرجت بريطانيا من عدن وهي تجرّ أذيال الخسارة، وفي 2023م – 2025م، اضطرت أمريكا وكيان الاحتلال الصهيوني للاعتراف تصريحًا وتلميحًا وعبر وسطاء ومسارات التفاوض، بأنّ اليمن قوة حقيقية لا يمكن تجاوزها، وأنّ زمن فرض الإملاءات من البحر الأحمر والخليج والمضيق قد انتهى.

الفارق الوحيد بين مستعمر الأمس ومحتل اليوم، هو أنّ الأول كان يأتي بالسفن؛ بينما الثاني جاء بالطائرات والمسيرات وحروب الوكالة، عبر الخونة والعملاء والمنتفعين ممّن يقتات على أمال الشعب وجراحه؛ أمّا اليمني الأصيل فهو هو؛ ذات الروح، ذات الجرأة، ذات الإرادة والعناد الذي لا يهاب الموت في سبيل دينه وأرضه وشرفه.

وما بين جيلين تنحصر ذاكرة واحدة اسمها التحرير، تحريرٌ يتجاوز الجغرافيا نحو صناعة الهوية، وكان واجب علينا في هذه الذكرى أنّ تعرّف الأجيال أنّ وطنهم لم يكتب مجده في كتب المدرسة وأوراق الصحف والمجلات وأحاديث الإذاعة والتلفزيون؛ بل بدم الثوار والمجاهدين من الرعيل الأول، وأنّ ردفان وشمسان وعدن وأرض الجنوب، كانت قصائد من نار ونور وسيف جهادٍ لا يخبو وصوت مقاومة لا يلين.

جيل اليوم بحاجة إلى أنّ يُقال لهم بصوتٍ واضح، أنتم أبناء شعب طرد أعظم إمبراطورية في العالم؛ فلا يليق بكم إلا أنّ تكونوا امتدادًا لهذه السلالة من المقاتلين المجاهدين الذائدين عن حياض الأمة وشرفها.

يجب أنّ يعلم الجميع أنّ اليمني وُلد حرًّا، وأنّ أيّ محاولةٍ لإخضاعه هي أشبه بالعبث أمام تاريخ من التحرر يمتد من حضارةٍ ضاربةٍ في القدم، من سبأ وحمير وحضرموت وقتبان ومعين، إلى إبراهيم الحمدي وسالمين إلى الصماد، إلى معركة الفتح الموعود والجهاد المقدس، صدًّا للعدوان ومقارعةً للغزاة والطغاة، إلى معركة البحر الأحمر والعمق الصهيوني.

اليمن اليوم، أصبح الأكثر قدرة على تغيير موازين القوى الإقليمية، وفرض إرادته على لاعبين دوليين يدّعون السيادة على العالم، وهو القوة الوحيدة التي قالت “لا” وصنعت معادلتها وتفرض حضورها؛ فما يحدث اليوم من معادلات ردع صنعها اليمنيون في البر والبحر، وما فرضوه على أمريكا وكيان العدوّ من قواعد اشتباك جديدة، هو امتداد طبيعي لمسار الـ 30 من نوفمبر المجيد.

وهذا هو جوهر الاستقلال وحقيقته، وهكذا جاءت بوصلة اليمن التي تكمل معنى التحرير، بعد أنّ عايش الاحتلال وعرف مرارته؛ فهو لا يقبل أنّ يرى فلسطين تُستباح أمام عينيه، وهنا تكتمل الدائرة الأخلاقية والسياسية؛ فمن طرد المحتل من عدن لا يقف صامتًا حين يستوطن الآخرون القدس وغزة والخليل، وليس كما يقوم به الأدعياء من الخونة والعملاء، في هذه الذكرى مجرد فعاليةٍ هنا، واحتفال هناك تحت قيادة المحتل نفسه، ويرفع علمًا يخالف مضامين نوفمبر.

بينما يقدّم أحرار اليمن رسالة للعالم؛ بأنّه بكل تضاريسه ودمائه وذاكرته وذكرياته، يقول شيئًا واحدًا، الـ 30 من نوفمبر لم يكن نهاية احتلال، وإنّما إعلان ولادة شعب لا يُهزَم، ومَن طرد بريطانيا العظمى بالأمس، قادرٌ على أنّ يطرد الوصاية والهيمنة اليوم، وسيقف مع فلسطين وكل الأمة، وكل المستضعفين في هذا العالم.