أفق نيوز
الخبر بلا حدود

جنوبٌ يتشظّى و”شرعيةٌ” تتبخّر.. وصنعاءُ ثابتةٌ في معادلة النار والسيادة

26

أفق نيوز| تقرير|

 في مشهدٍ يختلط فيه الصراع بالتمويه، ويذوب فيه الوكلاء داخل أجندات الغزو والاحتلال المقنّع، يتصدّر جنوب اليمن وشرقه اليوم حالةً مركّبة تتجاوز حدود التنافس المحلي إلى مستوى التمزيق الممنهج الذي تُديره الرياض وأبو ظبي بتفاهمات عميقة، وإن غُلِّفت بخطاب الخلاف أو الاصطدام التكتيكي بين أدواتهما.

ولم تعد لدى معسكر العدوان أيّة رايةٍ يقاتل بها صنعاء؛ فقد سقطت كل العناوين والشعارات الزائفة التي ظلّ التحالف يختبئ خلفها لسنوات؛ فلا “شرعية” بقيت، ولا محاربة انقلاب تُسمع، ولا “حضن عربي” يمكن الترويج له؛ فكلّ الأدوات التي صنعوها تهاوت، وبدأت تأكل أطراف بعضها بعضًا، فيما بقيت صنعاء وحدَها الحاضنة للعرب، والممسكة بالسيادة، والمتماسكة أمام كل رياح التفكيك والمؤامرات.

اليوم يقاتل تحالف العدوان “القديم الجديد” صنعاء تحت عنوان وحيد وخطير، وهو الحرب لصالح العدو الإسرائيلي، وبأدوات مناطقية انفصالية جهوية وتكفيرية تمتد من أقصى الشرق والشمال الشرقي إلى الجنوب والجنوب الغربي، في مشروع حربٍ يتجهز لكنه سيسقط حتمًا؛ حتى وإن اشتعل فلن يكون رعاته بمنأى عن تبعات النار.

السعودية التي تتهرّب وتتملّص من المسؤولية بذريعة أن الإمارات خرجت عن النص وتحاول العمل منفردة، بدأت تصوير المشهد في عدن وحضرموت والمهرة على أنه انهيار كامل لبنية الأدوات السعودية؛ فسحبت كل أدواتها وعناصرها ومسؤوليها وأطبّاءها وقواتها وموظفي القصر الرئاسي “المعاشيق”، وأجلت الوزراء والضباط، وأغلقت المنافذ، وتركت كثيرًا من المناطق مكشوفة تمامًا.

ويُنظر إلى هذه الخطوة التكتيكية على أنها اعتراف عسكري وسياسي بأنها خسرت النفوذ لصالح الإمارات؛ فيما الفصائل الإماراتية، وعلى رأسها الانتقالي، سيطرت على قصر المعاشيق، وعلى حضرموت وشبوة النفطيتين، وعلى مناطق واسعة من المهرة، ومعسكرات رأس العارة وباب المندب، ومواقع شحن والوديعة وغيرها، وأغلقت الطرق والمنافذ واعتقلت العشرات؛ بل وصلت إلى تصفية بعض العسكريين الشماليين غير المرغوب بهم لدى عيال زايد، وباتت الإمارات تمدّد نفوذها على الجنوب كما لو أنه غنيمة حرب، بينما السعودية تنسحب مرتبكة، عاجزة عن حماية أدواتها التي صنعتها وتركتها لمصير مجهول.

ولم تعد ما تسمّى “الشرعية” سوى لافتة فارغة في زوايا فنادق الرياض؛ فالعليمي، الذي حوصر في قصره في عدن ثم خرج بالإجلاء بعد أن أمر بإحراق الوثائق، ما يوحي بأن عهد شماعة الشرعية انتهى، خرج اليوم ليشكر قيادة المملكة على دعمها، ما دفع بعض الخونة إلى التلويح بالاستقالة، وأعضاء ما يسمى بـ”الرئاسي” يتبادلون الاتهامات، والسعودية تهدّد بالتبرؤ من الجميع، إذا لم يرضخوا للمخطط الجديد والقادم من الخارج والذي يقتضي ذلك.

وفيما تحتفظ الإمارات بأدواتها وتحرّك المشهد وفق المخطط الجديد، بات الجنوب اليمني غارقًا في فوضى قبلية وأمنية، من شبوة إلى لحج إلى حضرموت، حيث تتصاعد الاشتباكات القبلية وتغيب الأجهزة الأمنية؛ اشتباكات “ميفعة”، وصراع “الخزعة”، وغياب كامل لمليشيا الانتقالي التي تزعم أنها قوة ضبط، وهذه علامات على انهيارٍ لما كان يُسمّى جزافًا “سلطة ودولة”، وتحول الجنوب إلى مسارات صراع ومربعات تقاسم، والأخطر أن هذه الفوضى تُستخدم لإعادة رسم الخريطة بما يخدم المشاريع الصهيونية العالمية في الجزر اليمنية والموانئ والسواحل ومناطق النفط والثروات.

وبحسب المعطيات الموضوعية، فالسعودية تتراجع وتحاول التواري عن المشهد، وتضع الإمارات أمام مسؤولية الفوضى وحدها، بينما الأخيرة تتحرك نحو تقسيم الجنوب وتثبيت الانفصال، والغرب ينظر للانتقالي وطارق عفاش كأداة أمن بحري، وفي مقابل سقوط الإخوان في مأرب، يصبح المعسكر الذي جاء لإعادة “الشرعية” المزعومة أمس، أشتاتًا تبحث عن بقائها، فيما توسّعت قدرة الإمارات إلى حدّ يمكّنها من إعلان الانفصال ولو من جانبٍ واحد.

اللافت أنّ عودة سلطان العرادة المفاجئة إلى مأرب ليست زيارة تقييم كما روّج إعلام الحكومة الفندقية، بل توجّس ورعب من انهيارٍ متدرّج يشبه ما حدث في حضرموت والمهرة، ومحاولة لكبح جماح المتهوّرين من إشعال صدام خارج النص، لكنه عاد محمّلاً باليقين ذاته الذي باتت تدركه بقية قيادات الخونة الموالين للرياض، بأنهم تُركوا بلا دعم، بلا قيادة موحّدة، بلا مشروع، وصاروا أقرب للانهيار عند أول اختبار.

لقاءاته المكثفة مع القيادات لم تكن لرفع الجاهزية، وإنّما لرفع الروح المعنوية، في وقت لم تعد فيه معنويات ولا ثقة أصلاً، كما أنّ استدعاء السعودية لطارق عفاش وتوبيخه بعد تصريحاته المؤيدة لسيطرة الانتقالي على حضرموت والمهرة تُعد صفعة سعودية تعيد ترتيب حدود النطق أيضًا، وتكشف طبيعة العلاقة بين “الأدوات” و”المستخدم”، وهذا التحالف الثنائي، رغم تباين خطابهما العلني، يتحرك وفق تناغم استراتيجي لا يتناقض؛ فالإمارات تنفّذ على الأرض، والسعودية تعيد التموضع وتضبط الإيقاع، وكلُّ وكيلٍ يتجاوز النص يُستدعى للتأديب.

وفي مقابل ذلك، ألمحت التحليلات الصهيونية بعد سيطرة أدوات الإمارات على حضرموت، على أن اليد الصهيونية كانت موجودة، مؤكّدةً أن هذه السيطرة تفتح أمام الكيان فرصًا استراتيجية جديدة، ليست قراءة بعيدة، بل تعبير عن حقيقة أن الجنوب والشرق اليمني أصبحا مخزنًا إقليميًا للطاقة البديلة ونقطة ارتكاز بحرية مفتوحة وورقة ضغط سياسية واقتصادية.

ومن هُنا يمكن فهم سبب سرعة انتشار الانتقالي، والتراجعات السعودية، وسبب الاهتمام الغربي المفاجئ بالمشهد؛ على أنه سباق على الموارد، لا صراع أدوات كما يُراد تصويره؛ فصراع الوكلاء كذبة، وتقاسم المحتلين هو الحقيقة، وبات يظهر أن الخلاف بين الرياض وأبو ظبي مجرد ستار لتوزيع الأدوار؛ فالسعودية تمسك بالمنافذ والحدود والتوجيه السياسي، والإمارات تمسك بالمدن والسواحل والثروات، أما اليمن فيُراد له أنّ يتشظّى كي تبقى الثروات بلا صاحب، والقرار بلا دولة، والمستقبل معلّقًا على إرادة المحتلين.

إذن؛ ما يحدث اليوم ليس تفكّكاً سريريًا لتحالف العدوان القديم، بل هندسة “أمريكية – صهيونية – خليجية” مشتركة تهدف إلى قطع خطوط الإسناد اليمني إلى غزة وعموم فلسطين ولبنان، وتحويل الجنوب إلى قاعدة مواجهة بحرية وبرية للكيان الصهيوني والغرب الأمريكي، وتفتيت اليمن لإغراقه في الفوضى وفرض واقع استراتيجي يخدم العدو في باب المندب والبحر الأحمر.

وأمام هذه المشاريع، ستبقى صنعاء، بقيادتها، بشعبها، بجيشها، ترصد، تتابع، تستعد، وتؤكّد بثباتها وتمسّكها بوحدة الأرض والإنسان، وبمعادلة القوة والسيادة والقرار، أنها ستُسقط مشاريع الهيمنة والتقسيم والحرب على اليمن؛ فهي وحدها التي لا تهتز، ولا تتشظّى، ولا تُستدرج، بل تبقى اللاعب الوحيد الذي يمتلك مشروعًا ورؤية وحاضنة شعبية وإسنادًا عسكريًا واضحًا لكل شعوب الأمة.

موقع المسيرة