الهوية الإيمانية .. من التصديق إلى الموقف
أفق نيوز| أعده للنشر| طارق الحمامي
آيات الهوية الإيمانية في القرآن الكريم هي أكثر الآيات القرآنية كثافة في الدلالة، إذ تختزل منظومة الإيمان في بعدها الديني والعملي معًا، وتقدّم تصورًا متكاملاً للهوية الإيمانية، التي أكد الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه ، أنها تشكل الأساس المشترك لمسيرة الأنبياء والمؤمنين عبر التاريخ، وإطارًا ناظمًا للسلوك الفردي والجماعي، ومحددًا للموقف في الواقع، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة:285-286) .
الإيمان .. من التعريف إلى التأسيس
يفتتح النص القرآني بتقرير واضح: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ}، وهي صيغة تحمل في طياتها بعدًا معياريًا، وكأنها تضع نموذجًا معتمدًا للإيمان الصحيح، فالإيمان هنا ليس ادعاءً مفتوحًا على التأويل، بل حالة محددة المعالم تبدأ من التسليم للوحي وتنتهي بالالتزام العملي بمقتضياته، هذا الأسلوب الخبري يؤسس لقاعدة مرجعية تُقاس عليها حالات الإيمان المختلفة، وتُفصل من خلالها بين الإيمان الفاعل والإيمان الشكلي الذي لا يترك أثرًا في الواقع، ولخص معالمه الشهيد القائد بقوله : إيمان لا يبدأ من الله وينتهي بالمواجهة مع أعدائه، ليس هو إيمان الرسل والأنبياء والصالحين من عباد الله، لقد جاءت هذه الآية بصيغ إخبارية في التقريرات الإيمانية، لتوحي لنا بأنه هكذا، هكذا يكون الإيمان، الإيمان الذي هو إيمان الأنبياء والرسل والصالحين من عباد الله.
النموذج النبوي بوصفه مرجعية عملية
يبرز الرسول محمد صلوات الله عليه وآله وسلم، في هذا السياق باعتباره النموذج الأول لتجسيد الهوية الإيمانية، فالآية لا تفصل بين إيمان الرسول وإيمان المؤمنين، بل تضعهما في سياق واحد، ما يعكس وحدة المنهج ووحدة الطريق، ويكشف هذا التلازم أن الإيمان الحقيقي بالرسول لا يتحقق بمجرد الاعتراف برسالته، وإنما بالسير على النهج العملي الذي جسّده، نهج الحركة، وتحمل المسؤولية، والمواجهة لأعداء الله، لا الاكتفاء بالوعظ أو الانكفاء على الذات.
الإيمان كمنظومة متكاملة لا كعناصر متفرقة
تقدّم الآيتان تعريفًا شاملًا للإيمان عبر تعداد أركانه، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، دون تفريق أو انتقاء، وهو ما شدد عليه الشهيد القائد في درس ’’الهوية الإيمانية’’ أن هذا التعداد يطرح كل عنصر بوصفه لبنة لها أثر مباشر في تشكيل وعي المؤمن وسلوكه، والإيمان بالله يظهر بوصفه أساس الثقة والاعتماد، لا مجرد الإقرار بوجود الخالق، بل الاطمئنان لوعده وسننه في النصرة والتأييد، فالإيمان بالملائكة يكتسب بعدًا نفسيًا ومعنويًا، حيث يعزز شعور المؤمن بأنه ليس منفردًا في ميدان التحدي، بل جزء من منظومة دعم إلهية أوسع، والإيمان بالكتب يعكس وحدة المشروع الإلهي عبر التاريخ، واستمرارية الهداية، وينفي فكرة القطيعة بين الرسالات، والإيمان بالرسل يرسّخ الانتماء إلى خط تاريخي ممتد من القدوات المصطفاة، ويمنح المؤمن شعور العزة والامتداد الحضاري.
وحدة الرسالة وبناء الوعي الجمعي
من أبرز الدلالات التي رسخها الشهيد القائد في آيات الهوية الإيمانية، التأكيد على وحدة الرسالات السماوية، ووحدة المنهج الأخلاقي والإنساني الذي قامت عليه، فالأنبياء، رغم تباعد الأزمنة واختلاف البيئات، يشكّلون في مجموعهم تجربة واحدة متجانسة، ما يعكس قدرة هذا المنهج على بناء إنسان موحد الرؤية والغاية، ويُفهم من هذا الطرح أن الانقسام والتشظي الديني لا يمثلان امتدادًا حقيقيًا للخط الإلهي، بل خروجًا عنه، وهو ما يفسر الحزم القرآني في رفض التفرق الديني.
قصص الأنبياء .. وظيفة التثبيت لا السرد
يتجاوز الخطاب القرآني في عرضه لقصص الأنبياء البعد التاريخي، ليؤدي وظيفة نفسية وتربوية واضحة، تتمثل في تثبيت القلوب وتعزيز الصمود أمام التحديات، ويشير القرآن صراحة إلى أن هذا السرد كان موجهًا حتى للرسول نفسه، في إقرار صريح بأن حمل الرسالة يفرض ضغوطًا إنسانية تستدعي الدعم والتثبيت، غير أن هذه الوظيفة لا تتحقق إلا لدى من يعيش حالة الفعل والمواجهة، أما من يكتفي بالمشاهدة أو القعود، فإن هذه القصص تبقى لديه مجرد حكايات لا تتجاوز حدود المعرفة النظرية.
وفي ضوء هذا الخطاب، تتحول الهوية الإيمانية إلى معيار موضوعي لتقييم الأفراد والجماعات، فالإيمان يُقاس بمدى تحوله إلى التزام عملي، وموقف أخلاقي، واستعداد لتحمل المسؤولية.
ختاماً
تقدم آيتا الهوية الإيمانية في سورة البقرة تصورًا متقدمًا للإيمان بوصفه مشروعًا متكاملاً لبناء الإنسان والمجتمع، يقوم على وحدة العقيدة، ووحدة الرسالة، ووحدة الموقف، وهي رؤية تتجاوز الزمان والمكان، وتطرح الإيمان كقوة فاعلة في التاريخ، لا كحالة روحية منعزلة، ما يجعلها إطارًا صالحًا للتحليل والقراءة في كل سياق حضاري وإنساني.
يمانيون