أفق نيوز
الخبر بلا حدود

جولة من استراتيجية طويلة

72

أفق نيوز|

محمد نبيل اليوسفي

ما حقّقته القوات المسلحة اليمنية خلال عامين من المواجهة الملحمية مع الكيان الإسرائيلي لم تكن هي الصورة المكتملة، وإنما مُجَـرّد بداية.

لطالما تغنّى الكيان الصهيوني بقدراته التقنية الاستراتيجية التي لا تُقهر، من طلقة البندقية إلى “القبة الحديدية”.

وعلى مدى عامين من الإسناد لغزة، استطاع اليمن أن يُظهر هشاشة ومحدودية تلك القوة التي ادّعاها أنها لا تُقهر، وكانت البداية من اختراق “القبة الحديدية”.

أيضًا لم يكن اليمن بمعزل عن قياس قوة ذلك الكيان.

حتى عندما كانت الحرب ما تزال تدور في إطار مواجهات محلية تُعتبر كأدَاة طيّعة لقوى إقليمية تعمل لصالح الولايات المتحدة تحت مسمّى “التحالف العربي”، كان اليمن يعمل على قياس قوة أعدائه.

منذ نشأته كصاحب مشروع، حَيثُ كانت المعركة مع القوى المحلية والإقليمية مُجَـرّد بروفات تمهّد للالتحام المباشر مع العدوّ الأمريكي والإسرائيلي؛ باعتبَارهم رأس الأفعى.

فبمُجَـرّد أن أُزيحت تلك القوى المحلية والإقليمية عن المواجهة واندفعت إلى اتّفاقات الهدنة، سَرعانَ ما برز الكيان الصهيوني باستعراض قوته لاستهداف الأعيان المدنية وتدمير المباني في غزة.

حينها، تحوّل اليمن وقواته المسلحة إلى لاعبٍ إقليمي فاعل.

وإذا أتينا لنتحدث عن كيف تحوّل اليمن إلى لاعب إقليمي بعد أن كان في ظل مواجهة محلية، يتضح للجميع أن اليمن لم يكن يتحَرّك على هامش الأحداث، بل كان يتحَرّك ضمن بُوصلة استراتيجية محكمة تهدف إلى اجتثاث هذا الكيان من الجذور، طالما أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية، والمسؤولية دينية لا تُترك للرأي والمزاج.

فمنذ اليوم الأول الذي بدأ فيه الكيان الصهيوني بشن عدوانه الهمجي على شعب غزة، تحدث حينها السيد عبد الملك الحوثي -حفظه الله- قائلًا: إن تدخل العدوّ الأمريكي في مساندة العدوّ الإسرائيلي فستكون القوات المسلحة اليمنية حاضرة للدخول المباشر وردع العدوّ الأمريكي مناصرةً لغزة.

وحين تدخل الأمريكي بمساندته لكيان الاحتلال، كانت النتيجة -كما أكّـد سيد القول والفعل- الدخول في مواجهة مباشرة مع الطرفين.

وكما شهدت الأحداث، فقد نجح اليمن في النهاية في عزل الأمريكي عن مساندة الإسرائيلي، وكان له دور كبير إلى جانب المقاومة الفلسطينية في إجبار العدوّ الإسرائيلي على وقف إطلاق النار على قطاع غزة.

المهم هنا هو أن اليمن، الذي لم يكن لأحد أن يتوقع منه أن يبرز في ظل مثل هذه المواجهة -وهو لا يزال في معركة محلية استمرت لعشر سنوات- ثم تحوّل إلى لاعب إقليمي فجأة، هو ذاته ما يجب أن يتوقعه الجميع اليوم: أن اليمن يمتلك القدرة الهائلة لجولات عدة في المستقبل، وسترصدها الأحداث المتسارعة التي ستُحكى للأجيال ويسطرها التاريخ بأعظم المواقف التي شكّلت معضلةً كبيرة يصعب على أعداء الأُمَّــة عكس اتّجاهها من أي زاوية.

اليمن سابقًا وحاضرًا لم يكن يسعى هادفًا لتحسين وضعه فقط ثم ليتقاعد بعدها خوفًا على مصالحه المستقبلية.

إنما اليمن وبقيادته الربانية لم يتواجد في هذه الأرض إلا وهو يحمل مشروعًا يهدف إلى اجتثاث الصهاينة من جذور الأرض بأكملها.

صحيح أن ذلك سيُكلّف اليمن الكثير من التبعات العسكرية والاقتصادية والسياسية وغيرها من المتطلبات لخوض معركة مصيرية هي الأكثر ضراوة مع ألدّ الأعداء: أمريكا وكَيان الاحتلال، وعلى رأسهم أخطبوط الشر “اللوبي الصهيوني” الذي عمل على هندسة هذا العالم وتحويله إلى بنك داعم لخططه الاستراتيجية للاستيطان.

لكن اليمن يحسب حسابه من كُـلّ الاتّجاهات ويستمر هادفًا إلى العمق الذي سينتهي باستئصال الغدة السرطانية من الجذور.

كما أن الظاهر هنا أن الخصوم يمتلكون أفْتك الأسلحة الحديثة وأدهى السياسات، لكن السؤال: كيف لليمن الذي لا يزال في البداية أن يمتلك كُـلّ ما يغير موازين المعركة ويقلب الطاولة على القوى التقليدية؟ بدءًا من حَيثُ انتهت أحدث صناعاتهم العسكرية، ثم يحطّم هيبة عتادهم الحربي بكل عنفوان وجرأة وتقنية وحنكة فريدة.

ما يقدم عليه اليمن ليس تحرير اليمن أَو غزة فقط، بل يسعى أَيْـضًا لتحرير القدس وفلسطين والأمة بأسرها من التبعية والارتهان تحت هيمنة قوى الاستكبار العالمي، التي غلغلت في عمق الأُمَّــة؛ بهَدفِ ليس احتلال الأرض فحسب، بل احتلال العقل والوعي والهُـوية والحضارة والإنسانية والأخلاق وكل ما ينتمي إلى هذه الأُمَّــة من مقوّمات.

أيضًا ما يسعى إليه اليمن اليوم هو ما سيحفظ كرامة هذه الأُمَّــة بأسرها، ولو كلف ذلك المال والنفس.

وحتى ولو واجه معارضة الأنظمة العربية نفسها لمحاولة إعاقة هذا الموقف، فَــإنَّ هذه التحديات ستحول اليمن حتمًا إلى جذعٍ صلب لمواجهة المخاطر وتجاوز الصعاب التي ظن الآخرون أن عواقبها وخيمة فتخلّوا عنها.

فكل المساعي التي يتحَرّك من خلالها الكيان الصهيوني وداعموه وشركاؤه في المنطقة، مهما بلغ مستواها، لن تكون قادرة على إزاحة هذه المعضلة من أمامهم، حتى لو بذلوا كُـلّ ما في وسعهم.

وما يزال القادم أعظم من السابق، وهذه الجولات المصيرية ليست سوى تدريبات ميدانية لبناء القوات في شتى المجالات: العسكرية، والاقتصادية، والسياسية، والاستخباراتية.

وقد شهد العدوّ خلال عامين من إسناد غزة كيف استطاع اليمن تحويل التحديات والتهديدات إلى فرص، والفرص إلى أوراق ضغط، بدءًا من باب المندب وانتهاء إلى البحر الأحمر.

أما في عمق الكيان الصهيوني نفسه، فقد امتدت ضربات القوات المسلحة اليمنية.

وتلك البيانات العسكرية للعميد يحيى سريع التي كانت لا تفارق أذهاننا، حين نسمع دقة تفاصيلها المحكمة التي تصف لنا كيف تم اختراق الكيان من أقصاه إلى أقصاه، دون إحباط بفضل الله.