غزة سيرة وجع لا تنتهي
أفق نيوز| تقرير|
منذ أن أُعلن عن وقف لإطلاق النار في العاشر من أكتوبر، يعيش القطاع على إيقاع رقمين يختصران مأساة كاملة: “سبعة شهداء، وثمانية عشر جريحًا يوميًّا” كما يوثّق مركز غزة لحقوق الإنسان. يقول المركز إن العدو الإسرائيلي يمارس نمطًا ثابتًا من القتل المنهجي، كأن إعلان وقف إطلاق النار ليس أكثر من استراحة قصيرة بين موجتين من العدوان، أو غطاء يُسهل إدارة أبشع أشكال الإبادة تحت اسم مخفف، مشيرًا إلى توثيق استشهاد 368 فلسطينيا وإصابة 932 آخرين بجروح خلال 54 يومًا من وقف إطلاق النار.
في خريطة الموت الممتدة، يتقدّم “الخط الأصفر” الذي يحاول العدو الإسرائيلي توسيعه على الأرض، وعلى الأرواح الناس أيضًا، يبتلع المنازل والمزارع، ومع كل خطوة يتقدمها إلى الداخل، تتراجع قدرة الناس على التنقل، وتتسع دائرة الخوف، وتضيق مساحة التنفس. ما يزيد على ستين بالمئة من الأراضي باتت ممنوعة على سكانها، وتتحول المناطق “الآمنة” إلى أفخاخ مفتوحة، يتربص فيها قصف صهيوني يعرف تمامًا أين يضرب ومن يقتل.
في المواصي بخان يونس، كانت هناك خيمة، خيمة واحدة في سطر طويل من الخيام، لكنها في تلك الليلة تحولت إلى قبر عائلة كاملة: غادة، فتحي، إسراء، محمد، وبلال.. خمسة أسماء تنطفئ دفعة واحدة، كأنهم لم يكونوا يبحثون عن مأوى، بل كانوا ينتظرون دورهم في قائمة موت لا تنتهي. الأمن في غزة مجرد كلمة لا ظِل لها في الواقع، ولا قدرة لها على حماية أحد.
وقال مركز غزة إن الاستهداف الإسرائيلي الأخير على خيام النازحين في منطقة المواصي مساء الأربعاء 3 أكتوبر 2025 يعكس طبيعة الانتهاكات المتكررة، مبينا أن القصف استهدف عائلة واحدة في خيمة لجوء لا توفر أي حماية، وأدى إلى استشهاد خمسة أفراد بينهم امرأتان وطفلان، والعائلة تتكون من الزوج والزوجة وطفليهما وأم الزوجة وهم: غادة محمود محمد أبو حسين 48 عاما، فتحي فوزي علي أبو حسين 36 عاما، وإسراء محمد علي أبو حسين 29 عاما، والطفل محمد فتحي فوزي أبو حسين 10 سنوات، والطفل بلال فتحي فوزي أبو حسين 8 سنوات.
أجساد تنتظر النجاة ولا تصل.
في المستشفيات المدمرة تتراكم الملفات والمصابون كصفوف من الوجع المعلّق. منظمة “أطباء بلا حدود” تناشد العالم فتح الأبواب لآلاف المرضى المحتاجين إلى إجلاء عاجل، بعدما وصلت قوائم الانتظار إلى حد الموت، ثمانية آلاف فقط سمح العدو بخروجهم منذ بداية العدوان عام 2023، فيما ينتظر أكثر من ستة عشر ألفًا فرصة للعلاج خارج القطاع، بينهم أطفال يحملون أمراضًا لا ترحم، كالسرطان وتشوهات القلب. لكن المعبر أغلقه العدو، والممرات الإنسانية صارت ممرات انتظار طويل، يقف عليها المرضى كما يقف المسافرون في محطات لا تصل إليها القطارات. منذ أغلق العدو معبر رفح، انخفض عدد الخارجين للعلاج من 1500 شهريًا إلى 70 فقط، سبعون إنسانًا يجتازون الخط، فيما يبقى الآلاف يتطلعون إلى عالمٍ بلا ضمير.
وقائع الحياة في غزة مستمرة في التدهور، لم يعد الخوف من القصف وحده هو سيد المشهد، بل الخوف من الماء، أو بالأحرى، من غياب الماء. ممثل “يونيسف” يقول إن الوضع كارثي، وإن الأطفال يواجهون بردًا يعصف بالخيام، ويجرد الليل من أي رحمة. أما مقرر الأمم المتحدة المعني بالمياه فيحذر من كارثة إنسانية وشيكة، بعدما دمّر العدو الإسرائيلي أكثر من 90% من محطات المياه، وحوّل ماء الشرب إلى سلاح إضافي، يُستخدم كما تُستخدم المدافع.
تلوث واسع، آبار معطلة، ومحطات تحلية بلا وقود. عائلات كاملة تشرب ماء غير صالح للاستخدام، مهيئًا لتفشّي أمراض كالكوليرا، وفي كل مرة يقترب فيها الشتاء من القطاع تنفتح أبواب الخوف على مصراعيها، فالخيام تسقط من شدّة المطر، والأطفال ينامون قرب برك مياه ملوثة.
المقرّر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في مياه الشرب والصرف الصحي حذر من كارثة إنسانية وشيكة في قطاع غزة، مشيرًا إلى أن العدو الإسرائيلي دمّر نحو 90% من محطات المياه منذ بدء العدوان على القطاع، وأوضح أن العدو استخدم التعطيش سلاحاً ضد سكان غزة، عبر استهداف البنية التحتية للمياه، ومنع دخول الوقود اللازم لتشغيل الآبار ومحطات التحلية.
على أطراف غزة، تقف ستة آلاف شاحنة تابعة للأونروا عند البوابات، تحمل غذاء يكفي غزة لثلاثة أشهر كاملة، وتحمل خيامًا وأغطية لمليون وثلاثمئة ألف نازح، لكنها محبوسة، تنتظر توقيعًا من العدو الإسرائيلي كي تتحرك. بينما في الداخل يولد كل يوم جوع جديد، ويتكرر السؤال نفسه في كل خيمة: “متى تأتي المساعدات؟ وأين الدول الضامنة للاتفاق؟”.
يدخل إلى غزة عدد من الشاحنات لكن ذلك لا يشبه شيئًا من حجم الاحتياج الهائل. معظم ما يدخل غير كاف، وبعضه ليس ضروريًا للناجين الذين فقدوا القدرة حتى على الشراء، فالأسواق فارغة، والبطالة عامة، والناس لا يملكون سوى الانتظار. في شوارع الجنوب، تتكدس النفايات وتختلط بمياه الصرف الصحي التي تجري في الأزقة. الخيام تنهار بمجرد أن تعصف الريح، والبلديات عاجزة بعدما توقف الوقود عن الوصول إليها.
في خان يونس، أمطار قليلة تكفي لتحويل المخيمات إلى برك طينية، “إذا أجا المنخفض علينا حنغرق كلنا” قال أحد النازحين، وهو ينظر إلى خيمته التي طواها الزمن قبل أن يطويها المطر. محاولاتهم لوضع أكوام من الرمال حول المكان لا تمنع الغرق.
خان يونس، التي احتلها العدو الإسرائيلي خمسة أشهر دامية، حين عاد الناس إليها لم يجدوا إلا الركام، أربعمائة ألف طن من الحجارة، القطع المعدنية، وبقايا البيوت. البلديات بدأت عملية رفع الركام فورًا، بمعدات مهترئة ونقص فادح في الوقود، ومع ذلك، ما تزال الطائرات المسيرة الاسرائيلية تحلق فوق المدينة، وتواصل استهداف من يقترب من “الخط الأصفر” أو من يتجول داخل أحيائه.
على امتداد 55 يومًا، خرق العدو الاتفاق أكثر من 590 مرة، ما خلف مئات الشهداء والجرحى، فالاتفاق ليس سوى جدار من ورق، يتساقط بمجرد أن تهب عليه رياح الاستهتار الصهيوني.
ولم تكن الخروقات مجرد قصف أو إطلاق نار، بل امتدت إلى عمليات تفجير بواسطة روبوتات مفخخة، وإلقاء قنابل من طائرات “الكواد كابتر” على منازل المدنيين. الدفاع المدني حاول إنقاذ خمس إصابات في حي التفاح، بينهم سيدتان وطفلان، وسط نيران تحاصر المكان من كل اتجاه.
المشهد الأكثر قسوة ربما هو ذاك الذي كشفه الدفاع المدني عندما تمكن من الوصول إلى مناطق كانت مغلقة بالنار: عشرات الجثث، بعضها تحلل، وبعضها تحول إلى عظام. عائلات بقيت تحت الأنقاض أسابيع كاملة، لأن مركبات الإسعاف كانت تُمنع من الدخول.
ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي عام 2023، وصل عدد الشهداء إلى ما يفوق سبعين ألفًا، والجرحى إلى أكثر من مئة وسبعين ألفًا، وما يزيد على تسعة آلاف مفقود، ومئات الآلاف من النازحين. إنها مأساة لا تحتاج إلى لغة الإحصاء، بل إلى ضمير يقرأ ما بين الأرقام.
الطفولة هنا تتآكل، “الأونروا” تقول إن الأطفال يعانون من صدمات نفسية عميقة، وإن العودة إلى التعليم ليست ترفًا، بل ضرورة لإنقاذ جيل كامل من الضياع. لكن المدارس مهدمة، والمواد التعليمية ناقصة، والمقاعد التي كانت تكتب فوقها الضحكات تحولت إلى أنقاض.
نقلا عن موقع انصار الله