منذ ما يقرُبُ من عامين، وأفعالُ جريمة الإبادة الجماعية بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة مُستمرّة ومتتابعة يوميًّا وعلى مدار الساعة، وقد اصطبغت هذه الجريمة منذ ذلك الحين بالصِّبغة العِبرية الصهيونية، تحت عنوان زائف ومضلِّل، وهو (الحرب الإسرائيلية على غزة)، تولّت الترويج لهذا العنوان ماكينة إعلامية ضخمة، لتصرف بهذا الترويج دور بقية الشركاء في الجريمة من أنظمة العرب والغرب.

وليَستقرَّ وفقًا لهذا الترويج في ذهنية الرأي العام، أن ما جرى ويجري في قطاع غزة نزاعٌ مسلّح بين طرفين، وأن هناك جهودَ وساطة تبذلها أطراف إقليمية ودولية لوقف هذا النزاع، وأن الأمر َمتعلّق فقط بتصلُّب مواقف طرفيه، غير أن ما جرى ويجري في قطاع غزة ليس نزاعًا مسلّحًا ينطبق عليه ما ينطبق على غيره من النزاعات المسلّحة بين الدول، التي يمكن لأية دولة ليست طرفًا في هذا النزاع أن تزود أحد طرفيه بما يحتاج إليه من عتاد عسكري وغيره من المؤن المخصّصة للاستخدام المدني.

ذلك أمر جائز ولا مشكلة فيه وفقًا للقانون الدولي، والنموذج الماثل على أرض الواقع، ما يقدّمه حلف الناتو من معونة عسكرية ومدنية لأوكرانيا في حربها مع روسيا، وما تتلقّاه الأخيرة من إسناد عسكري من دول أُخرى حليفة لها. والوضع القائم بين روسيا وأوكرانيا لا ينطبق بحالٍ من الأحوال على الوضع القائم في قطاع غزة. فإذا كان الكيان الصهيوني يتلقّى بشكل علني شحنات السلاح من القوى الاستعمارية الغربية، وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، وشحنات المؤن المدنية والأموال من عدد من الدول العربية والإسلامية، فإن غزة لا حليف لها يمدّها بشحنات السلاح والمؤن الغذائية والمدنية، وهذا على فرض أن غزة دولة كاملة السيادة، تمثّل طرفًا في النزاع المسلّح ويتوافر لها من المقوّمات ما يتوافر لغيرها من الدول!

لكن غزة ليست دولة وفقًا لأحكام القانون الدولي، ومن ثم لا يصحّ وصف الحالة فيها بأنها (حرب)؛ إذ إن الحرب، كما سبق، نزاعٌ مسلّح بين طرفَينِ أَو أكثر يخضعُ لأحكام القانون الدولي؛ بمعنى أن أطرافَ هذا النزاع دولٌ كاملة السيادة، تملك كُـلّ منها قرارها. وَإذَا لم تكن غزة طرفًا من أطراف القانون الدولي، فلا يصحُّ من ثمّ وصف النزاع المسلّح فيها بأنه (حرب)، لاستحالة انطباق أحكام القانون الدولي على هذا النزاع، وباعتبار أن غزة جزء من أرض فلسطين المحتلّة، فإنّه ينطبق عليها ما ينطبق على الأرض المحتلّة من أحكام.

وإذا كان تصرّف الكيان الصهيوني بمثابة ردّة فعل على طوفان الأقصى، فإن وصف ذلك لا يخرج عن كونه عملية أمنية، بشرط ألّا تتجاوز ملاحقة منفّذي العملية، وبشرط ألّا تتجاوز حَــدّ التناسب بين هذه العملية وما ترتّب على طوفان الأقصى من أضرار وآثار. لكن الواضح أن الواقع يؤكّـد أن الكيان الصهيوني اعتمد خطة للإبادة الجماعية والدمار الشامل لكل مقوّمات الحياة في قطاع غزة، وهو ما يعني أن الحالة في غزة ليست عملية أمنية، ولا حالة (حرب)، وإنما جريمة إبادة جماعية استغرقت جميع الأفعال المنصوص عليها في المادة الثالثة من اتّفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لسنة 1948م.

والهدفُ من إضفاءِ الصبغة العِبرية على الحالة في قطاع غزة، ووصفها بأنها حالة (حرب)، والترويج بشكل واسع لهذه الحالة، هو صرف الرأي العام عن دور الشراكة في جريمة الإبادة الجماعية، التي يتجاوز فيها دور الشركاء دور المنفّذ المباشر للجريمة، وهو الكيان الصهيوني، بحيث إنه لولا دور الشركاء، لما تجرّأ هذا الكيان المجرم على تنفيذ جريمته والاستمرار فيها لكل هذه المدّة من الزمن.

وعند التدقيق في دور الشركاء، يتّضح بالفعل أنه يتجاوز دور الكيان الصهيوني بوصفِه المنفّذَ المباشرَ لأفعال جريمة الإبادة الجماعية. ولسنا في حاجة هنا لمناقشة وسرد كافة المعطيات الواقعية التي تجسّد شراكة القوى الاستعمارية الغربية، فذلك واضح ومعلن، وما يهمُّنا هنا هو إيضاح شراكة الأنظمة العربية في جريمة الإبادة الجماعية، وأثر هذه الشراكة على استمرار الكيان الصهيوني في اقتراف أفعال الجريمة.

إن مُجَـرّدَ صمت الأنظمة العربية وغضّ الطرف عن الجريمة التي تعرّض لها، ولا يزال يتعرّض لها، أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، من شأنه أن يرقى فوق مستوى الفعل المباشر لمنفّذ الجريمة، ناهيك عن الموقف المُعلَن من جانب بعض الأنظمة العربية، الذي يصنّف فصائل المقاومة الإسلامية بأنها جماعات إرهابية، ويقتضي هذا الموقف القبول بتصفية أعضائها جسديًّا، وتدمير كافة مقوّمات عملها الجهادي.

ولا يقف الأمر عند ذلك الحدّ، بل إن بعض الأنظمة العربية تمدّ الكيان الصهيوني بالمواد الغذائية وغيرها من المواد الأولية اللازمة لتحريك دورته الاقتصادية، وبعض الأنظمة العربية اشترطت صراحةً على الكيان الصهيوني تصفية فصائل المقاومة الإسلامية لاستكمال عملية التطبيع! وبعض هذه الأنظمة تولّت صرف تعويضات للمستوطنين الصهاينة، وبعضها تدفع الرشاوى لكبار قادة الكيان الصهيوني.

والأدهى من ذلك والأمر، أن القنابل التي تُدمّـر بها بنية غزة وبنيانها، ويُباد بها سكّانها، تُنقَل إلى الكيان المجرم من مخازن القواعد الأمريكية المتواجدة على الأراضي العربية في منطقة الخليج. وفوق ذلك، فإن ثمن القنابل والصواريخ المنقولة من مخازنها في الأراضي العربية مدفوع الثمن من الأموال العربية.

وبذلك، فإن الصبغة العربية لجريمة غزة تفوق بكثير الصبغة العبرية؛ باعتبَار أن الكيان الصهيوني مُجَـرّد أدَاة تنفيذ للجريمة، المُمَوَّل سلاحُ تنفيذها من المال العربي، والمحرّك وسائلَ تنفيذها النفطُ العربي، والمزيّفُ لحقيقة أفعالها الإعلامُ العربي.

ولولا الصمتُ العربي، والرضا العربي، والمال العربي، والنفط العربي، والإعلام العربي، ما تجرّأ الكيان الصهيوني بحال من الأحوال على تنفيذ الجريمة أَو الاستمرار في تنفيذ فصولها.