حيث لا تصل السفن إلا وقد سُحِبت شرعيتها
أفق نيوز|
أحمد إبراهيم المنصور
كانت البحار تعرف أسماءها، لكنها اليوم تحفظ أسماء البنادق. فالذي يمضي بسفينته إلى موانئ الاحتلال، عليه أن يعبر بحرًا لم تعد مياهه مياهاً، بل صار مَدًّا من السخط اليمني، وعمقًا من دموع غزة التي ما جفّت مذ كان الحجر يُقاوم الدبابة، ويُغالِب الجوع بصوت المؤذن في المخيم.
لم يكن قرار صنعاء الأخير ببدء المرحلة الرابعة من الحصار البحري تصعيدًا طارئًا أو استعراضًا للقوة، بل كان استمرارًا طبيعيًا لمسار بدأ منذ لحظة إعلان المشاركة المباشرة في معركة غزة، حين التحم اليمن بالميدان دون انتظار إذن من مجلس أمن، أو غطاء من تحالف، أو موافقة من عالمٍ أدار ظهره للأطفال الجوعى. فمن البحر الأحمر حتى خليج عدن، كانت البوصلة واضحة: لن تمر سفينة تمدّ الاحتلال بشرعية اقتصادية، إلا وتُسحب منها شرعيتها بالقوة.
لم تُمَيّز القوات المسلحة اليمنية بين أعلام السفن، ولا بين لغات قباطنتها، لأن التعامل مع العدو لم يكن يومًا مسألة نسب، بل كان مسألة شرف وموقف. ولهذا جاء البيان الأخير صريحًا: كل سفينة تتعامل مع موانئ العدو ستُعامَل على أنها أداة للقتل، وشريكة في الجريمة، ولن تُستثنى من الردّ أينما وُجدت.
في صيف عام 1967، أغلق جمال عبد الناصر مضيق تيران أمام سفن الكيان الصهيوني، فكان ذلك سببًا مباشرًا في اندلاع نكسة حزيران، لأن العدو لم يحتمل أن يُقطع عنه شريان التجارة. واليوم، وبعد ما يقارب ستة عقود، يُعاد رسم الملامح البحرية للمواجهة، لكن هذه المرة من صنعاء، لا من القاهرة، ومن قواتٍ عسكرية لا تُراهن إلا على القناعة والدم.
غرق السفن، وانسحاب الشركات الكبرى، وتضاعف تكاليف التأمين، لم تكن مجرد نتائج عرضية، بل مؤشرات على عمق التحوّل. شركات كبرى مثل “مايرسك” و”هاباغ-لويد” لم تنسحب لأسباب لوجستية، بل لأنها أدركت أن البحر لم يعد مكانًا آمنًا حين يُقابله قرارٌ سياسيٌّ سياديّ صادرٌ عن طرف غير مرتهن للمنظمات الدولية أو المصالح الغربية.
لم ننتظر من واشنطن أو لندن أن تعترفا بشرعيتنا، فقد انتزعناها من موازين الردع. وكل بيان يُعلَن من صنعاء هو، في جوهره، إعلانٌ لواقع دوليٍّ جديد لا يقوم على الهيمنة، بل على التوازن بالإجبار. وهذا ما أدركته العواصم الغربية، حين وجدت نفسها مضطرةً لإرسال سفن إنقاذ، لحماية مصالحها الاستراتيجية، بل لإنقاذ ما تبقى من ماء الوجه أمام رعاياها.
في الحصار الجديد، لا يُحاصَر الفلسطينيون وحدهم، بل يُحاصَر العدو أيضًا، بكل ما يمدّه بالاستقرار: سفنه، وشركاته، وتُجّاره، وتحالفاته الاقتصادية. المعادلة لم تعد تدور حول صواريخ تنطلق من غزة وتُقابَل بمئة غارة، بل أصبحت تدور حول إرادةٍ من خارج الحدود، تقلب الموازين من البحر، وتعيد صياغة مفهوم الاشتباك.
لقد فعلتها صنعاء، كما فعلتها بيروت حين كُسر خط بارليف بالكلمة والصاروخ، وكما فعلتها طهران حين أغلقت مضيق هرمز بتهديدٍ صامت. فالمقاومة ليست حصريةً بالبندقية، بل تمتد إلى حيث تُبنى الجسور وتُعقد الصفقات. والميناء الذي يتعامل مع تل أبيب هو، في نظر الشعب اليمني، موقعٌ عسكريٌّ متقدّم للعدو، مهما كان موقعه الجغرافي أو علمه المُرفرَف.
غزة الآن ليست وحدها، لأن من يقاتل معها، اختار أن يكون فيها وعنها، ولم يُجبَر على ذلك، حتى وإن لم تطأ قدمه شوارع خان يونس. وتلك الشراكة هي التي تصنع من البحر الأحمر شريانًا للردع، لا ممرًا للتجارة. وفي وجه كل سفينة ترفض الامتثال، هناك طائرةٌ مسيّرةٌ تنتظر، وصاروخٌ فائقُ الصوت لا يسأل عن اللغة أو المسار، بل عن الوجهة: هل مررتَ من ميناء الاحتلال؟ فإن كانت الإجابة “نعم”، فالبحر سيُعيد ترتيب الأجوبة بطريقته.
التاريخ لا ينسى من أغلقوا الممرات المائية في وجه الظلم، ولا من جعلوا من البحر كتابًا يُقرأ فيه صمود الشعوب. واليمن اليوم، يكتب في هذا الكتاب فصلًا جديدًا، لا يشبه بيانات الحكومات العربية، ولا مؤتمرات القِمم التي تنتهي بالتصفيق. إنه فصلٌ مكتوبٌ بالحبر الذي لا يجفّ: حبر الإرادة، والبوصلة، والدم الذي سال في غزة ولم يُترك وحيدًا.