الرسالة الإلهية مشروع النجاة وملاذ الأمة
أفق نيوز|
تقرير|
في البدء، حين غرق الإنسان في بحار الظلم، وحين أثقلت كاهله سلاسل القهر، وحين تشابكت حوله خيوط الطغيان كعنكبوت أسود يلتف على الفريسة، بزغ في الأفق نورٌ من عند الله، نورٌ أزاح عن البشرية ركام الجهل، وفتح لها أبواب العزة والحرية.
لقد كانت الأرض مثقلة بالظلمات؛ ظلمٌ يتوارثه الملوك والجبابرة، واستعبادٌ يطحن الشعوب، ومفاهيم باطلة تُزيَّن للناس، حتى رضوا بالقيود كأنها قدر لا يُكسر. وفي لحظة كان العالم يصرخ بلا صوت، أرسل الله رسالته، فكان الكتاب المبين، وكان الرسول العظيم الذي حوّل المسار، وأشعل في النفوس جذوة الحرية.
ليست الرسالة الإلهية كلامًا يُتلى في زوايا مهجورة، ولا شعائرَ معزولة عن واقع الحياة، بل هي مشروعُ حياةٍ متكامل، ومشعلُ هدايةٍ أزلي. هي السيف الذي يطيح برؤوس الطغاة، وهي البلسم الذي يضمد جراح المظلومين، وهي الوعد الذي لا يزول: أن الباطل مهما تضخم، سيبقى واهنًا أمام كلمة الحق.
ومن يتأمل مسيرة البشرية يرى كيف تتكرر المأساة: جبابرة يظنون أن الأرض ميراثهم وحدهم، يفرضون إرادتهم بالحديد والنار، ينهبون خيرات الشعوب، ويشوّهون وعيها، ويُلبسونها ثوب العبودية باسم الحضارة والتقدّم. غير أن الرسالة الإلهية كانت دائمًا هي الفجر الذي يبدّد ليلهم الطويل، وهي الملاذ الذي يلوذ به المستضعفون لتستعيد أرواحهم أنفاسها، وقلوبهم يقينها، وحياتهم معناها.
إنها ليست سطورًا في التاريخ، بل قدرٌ ممتد عبر العصور؛ قدرٌ يعلّم الإنسان أن الحرية ليست انفلاتًا من القيم، بل هي الترفع عن الدنايا، والسمو فوق الشهوات، والتمرد على قيود الطغيان. إنها الحرية التي أنشدها الأنبياء، وعبّدوا لها الطرق بدمائهم، وزرعوها في الأرض كغرس خالد لا يموت.
ومن هنا، تبدأ الحكاية التي لا تنتهي: حكاية الرسالة الإلهية، مشروع النجاة، وملاذ الأمة.
إنَّ الرسالة الإلهية بما فيها من قيم وأخلاق ومبادئ ونور، ستبقى هي مشروع النجاة وملاذ الأمة، بعد فشل كل الرهانات والاتجاهات الضَّالة والزَّيف المحسوب على الإسلام، وكما كان مسارها في حركة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله مساراً عظيماً ومتكاملاً غيَّر الواقع تماماً آن ذاك، الواقع المظلم بكل ما فيه من ظلال، وجهل، وتخلف، وشتات، وفرقة، وانعدام للمشروع والهدف، وبنى بناءً متكاملاً في شتى مجالات الحياة، ولم يكن مساراً قائماً على الرهبانية، ومنغلقاً داخل أسوار المساجد في عزلةٍ عن الحياة والواقع، بل كان له نتيجته التي في مقدمتها الإطاحةُ بالظلم والفساد، وإصلاح الواقع، والقضاء على نفوذ وتسلط المجرمين في الجزيرة العربية، ثم التأثير في الواقع العالمي.
من القيم الرسالية العظيمة (العدل) الذي هو أساسٌ لاستقرار الحياة، وهو ركيزةٌ أساسيةٌ في رسالات الله، ولذلك سعى الأنبياء العظام على مرِّ التاريخ لإقامته في الأرض، وتبعهم في ذلك ورثتهم الحقيقيون وأتباعهم الصادقون عبر الأجيال، وإقامتهُ مسؤوليةٌ أساسيةٌ على الناس، قال الله تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ).
ومن يتأمل الواقع العالمي يرى الضرر الكبير الذي لحق بالناس عموماً لغياب العدل، واستحكام الظلم والطغيان، وما أكثر ما تعانيه كثيرٌ من الشعوب، بل ومعظم البشر على بقاع الأرض.
الرسالة الإلهية هي شاملةٌ لمكارم الأخلاق، وتزكية الإنسان ليكون عنصر خير في الحياة، وليقوم بمسؤوليته في الأرض على أساسٍ من الأخلاق والقيم.
وتعني الرسالة الإلهية أنها مشروعٌ تنويريٌ لإخراج الناس من الظلمات إلى النور من خلال الرسول والقرآن، لأن الله جلَّ شأنه رحمةً منه بعبادة وتكريماً لهم يستنقذهم من ظلمات الجهل وظلمات الظلال والخداع، وظلمات الباطل، بنوره الذي يكشف الحقائق، ويبدد كل الظلمات، قال الله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ).
ولذلك فمن أعظم مظاهر رحمة الله وتكريمه لعباده، أن جعل لهم من نوره ما يكشف تظليل وأباطيل وخداع الظلاميين المضلين المخادعين، فكما جعل الشمس سراجاً وهاجاً منيراً كونياً تستفيد منها البشرية، من نورها ودفئها، وترى ما غطاه الظلام، كما قال تعالى (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا)، جعل الرسالة والرسول نوراً للقلوب، وكاشفاً لظلمات الظلال، منيراً بالهدى والحق والحقيقة، كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا).
تحرك الرسول صلى الله عليه وعلى آله بالقرآن الكريم لتصحيح العقائد الباطلة والمفاهيم المغلوطة الظلامية، لإخراج الناس من الظلمات، إلى رحابة وضياء النور والهدى والحق، كما قال تعالى (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) وقال تعالى (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
وعن أسباب تحرك الرسول بالقرآن الكريم فلأن أول ما يُستهدَفُ الإنسان هو في وعيه، ومفاهيمه، حيث تسعى قوى الظلم والظلام والطغيان من أولياء الشيطان إلى خداع الناس وتظليلهم، ليتحقق لها من خلال ذلك السيطرة عليهم، ولو لا ذلك لم يتمكنوا أبداً من استحكام ظلمهم وطغيانهم، وفي زمننا هذا أصبح للقوى الظلامية إمكانيات هائلة لتظليل الناس، وصناعة الرأي العام والتحكم به، وترسيخ قناعات باطلة وأفكار مسمومة، وآراء مُظِلَّة، وبأساليب شيطانية، وبكل الوسائل الإعلامية من قنوات فضائية، وإذاعات، وصحافة وغيرها، والوسائل التثقيفية والتعليمية من مدارس وجامعات ومناهج دراسية، فتغلبوا على معظمها واستحوذوا على أكثرها، يوجهونها بظلماتهم بما يضلل الناس، ليهيئوا لهم الأجواء للهيمنة والسيطرة، فالسيطرة على تفكير ورؤية الناس وقناعاتهم، ومفاهيمهم مفتاحٌ للسيطرةِ التامةِ عليهم، وفرضِ حالةِ التقبل لباطلهم وجرائمهم.
إنَّ نور الرسالة الإلهية من خلال القرآن والرسول هو الأقدر على كشف ظلمات جاهلية العصر، التي تقودها أمريكا بنزعتها الاستعمارية التسلطية، وهمجيتها، وطغيانها، ومن يدور في فلكها من كل القوى الظلامية، وإنَّ الأمة الإسلامية أحوج ما تكون في هذا العصر إلى الوعي والبصيرةِ والنور، فما ضربها ولا أضرَّ بها شيءٌ مثل انعدام الوعي والبصيرة، وظلام التضليل.
تجلَّى بوضوح في حركة النبي محمد عظمةُ وقوةُ الرسالةُ الإلهية، وقدرتها على التغيير، ومواجهة التحديات، وإذا أرادت الأمة اليوم تغيير واقعها، وتصحيحَ وضعها، فذلك مرتبطٌ بعودتها الجادة الواعية إلى مبادئَ وقيم وأخلاق هذه الرسالة، وإلى الرسول صلى الله عليه وآله قدوةً تقتدي به، وقائداً وأسوة، والتعرُّفَ عليه وعلى مسيرته العملية، وحركته بالرسالة الإلهية التي هي رحمة من الله للعالمين، وبالتمسك بها تحظى الأمة من الله بالنصر والعون والتأييد، وتستعيدُ دورها الحضاري بين الأمم مقيمةً للعدل، متخلصةً من هيمنة الطغاة والظالمين.
إنَّ الواقع العالمي -الذي تقوده وتصنعه قوى الطغيان وفي مقدمتها أمريكا و”إسرائيل”، والذي غابت عنه القيم، وغاب فيه الارتباط بالأنبياء- شاهدٌ على حاجة البشرية إلى التغيير والعودة إلى القيم، وإعادة دور التأسي والاقتداء بأنبياء الله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله، وتعزيز الارتباط بأنبياء الله.