العدو الإسرائيلي يأكل نفسه. الطوفان أعاد تجديد الأزمات و الانقسامات
أفق نيوز| تقرير| يحيى الشامي
لا شيء يشغل بال العدو الإسرائيلي اليوم أكثر من مسألة مصير كيانهم المُتهالك بعد الحرب، بأثرٍ مباشر من طوفان الأقصى الذي اخترق عقيدته الأمنية. أحد الصراعات تدور داخل أروقته حول “لجنة تحقيق” لم تُشكل بعد، وقد لا تُشكل أبداً.
في الوقت الذي تتفاعل فيه تداعيات القرار الدولي الأخير بخصوص خطة الرئيس الأمريكي ترامب، يغرق الكيان الصهيوني في أزمة داخلية لم يسبق لها مثيل، تركزت حول مسألة قد تبدو في الظاهر إدارية بحتة، لكنها في العمق تعكس هوية النظام السياسي والأمني لهذا الكيان: أزمة لجنة التحقيق في أحداث السابع من اكتوبر 2023.
لم تكن دعوات التحقيق في الفشل الذريع الذي مثلته أحداث السابع من أكتوبر وليدة اللحظة. منذ الساعات الأولى للهجوم، تقدم جنرالات صهاينة متقاعدون ومحللون عسكريون وشخصيات قانونية ، بطلبات رسمية لتشكيل هيئة تحقيق مستقلة، تكون مهمتها كشف أسباب الانهيار الأمني والعسكري غير المسبوق، وتحديد المسؤوليات، وتقديم توصيات تمنع تكرار الكارثة.
ورغم أن هذا المطلب كان يحظى بإجماع نسبي في الشارع اليهودي المحتل، إلّا أن مجرم الحرب ما يُسمى رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، ظل يعرقل إقراره بحجج واهية، أبرزها أن “التحقيق في زمن الحرب يضعف الجبهة الداخلية”، وأن “الجيش يجب أن يُكمل مهمته أولاً قبل فتح ملفات الماضي”، غير أن هذه الحجة سرعان ما سقطت، حين أقدم جيش العدو نفسه على إقالة عدد من كبار قياداته وإحالة بعضهم للتقاعد، وتحديداً “رئيس أركان الجيش” الصهيوني ” أفيف كوخافي”، ورئيس “الشاباك” “رونين بار”، و”رئيس الاستخبارات” العسكرية “أهرون حليفا”، على خلفية تقارير إسرائيلية كشفت فشلاً أمنياً مستشرياً.
في مواجهة الضغوط، أطلقت سلطة العدو “التحقيقات الداخلية” في “الجيش” و”الشاباك” ومكتب “المستشار القضائي “في “حكومة” العدو، لكن تلك التحقيقات كانت مغلقة، ولم تستهدف المستوى السياسي، ولم تلزم أحداً بنتائجها أمام الرأي العام. ومع إعلان ترامب “انتهاء الحرب” وطرح خطته، عادت الضغوط إلى ذروتها، لاسيما أن المعارضة في الكيان وجزءاً من الائتلاف “الحكومي” رأوا أن التحقيق بات ضرورة “وطنية”.
في خطوة مفاجئة قبل أيام، أعلنت “حكومة” المجرم نتنياهو موافقتها على تشكيل “لجنة تحقيق حكومية”، مؤكدة أنها ستكون “مستقلة وذات صلاحيات كاملة”، لكن الواقع القانوني يكشف فارقاً جوهرياً: اللجنة الرسمية يحدد قانون الطوارئ الإسرائيلي شكلها وصلاحياتها، ويجرّم التدخل في عملها، ويرتبط أعضاؤها بـ”المحكمة العليا”، أما اللجنة “الحكومية” فهي تُشكل بقرار “حكومي”، ويُحدد تفويضها بموجب قانون خاص، وتخضع لإرادة “التحالف السياسي “الحاكم، بمعنى أدق: “اللجنة الحكومية” أداة سياسية بيد “حكومة” الاحتلال، وليست أداة قضائية عليها.
ولإضفاء مظهر “الشفافية”، أعلن سكرتير “حكومة” العدو “يوسي فوكس” عن تشكيل فريق وزارى برئاسة “ياريف ليفين”، “وزير” ما يسمى العدل في “حكومة” نتنياهو، وممهّر الانقلاب القضائي الذي شغل الكيان لشهور، وهو فريق يُفترض أنه سيرفع توصياته خلال 45 يوماً، يضمّ ثمانية “وزراء” من أكابر مجرمي الحرب في كيان العدو، والمعروفين بآرائهم الاجرامية الخبيثة بحق العرب والفلسطينيين، وجميعهم جزء من التيار الصهيوني الديني الموغل في الحقد، وقد صدرت عنهم خلال الحرب التصريحات الداعية الى محو الفلسطينيين وإبادتهم، والقصد هنا أن هؤلاء هم من سيحددون ولاية التحقيق، ومن سيدخل في دائرة الاستجواب، وما هي النتائج التي ستخرج بها اللجنة. وهذا يعني -كما قالت المعارضة- أن “القط هو من سيحدد قواعد الصيد”.
لم تنتظر “المعارضة” في الكيان الإسرائيلي طويلاً، حيث أعلن “يائير لبيد” زعيم المعارضة و” أفغدور ليبرمان” زعيم حزب “إسرائيل بيتنا” مقاطعتهما اللجنة ورفضهما المطلق للإدلاء بأي إفادة أمامها. وقال “لبيد” إن “الحكومة تبذل قصارى جهدها للتهرب من الحقيقة والتنصل من المسؤولية”، أما “غادي آيزنكوت”، وزير سابق لجيش العدو ورئيس حركة “ياشر”، فوصفها بـ”لجنة التستر والتآمر”، وكان ليبرمان قد سبقهم بإعلان الرفض.
من الشارع، ردّت ما تسمى حركة “أحرار في بلادنا” المنظِّمة الرئيسة للاحتجاجات الشعبية ضد “حكومة” نتنياهو، ببيان حاد: “ياريف ليفين وهوسه الجنوني بالانقلاب القضائي، إلى جانب رئيس وزراء متهم بجرائم، هما من أديا إلى ما وصفوه بمجزرة 7 أكتوبر بسبب سوء الإدارة، والمفهوم التدميري، والهوس بتدمير النظام القضائي الذي مزّق الشعب، أدت كلها إلى المجزرة، ورفعت الحركة أن من يدان لا يمكنه التعيين!”.
أما ما يسمى مجلس أسرى وذوي ضحايا الحرب فأصدر بياناً أشدّ حدة: “ثمانية وزراء، كانوا جزءاً من الحكومة التي تتحمل المسؤولية المباشرة عن أكبر كارثة في تاريخ “إسرائيل”، هم من سيحددون ولاية التحقيق، ومن ثم تحديد المحققين والاستنتاجات، قائمة الوزراء التي نشرت، إلى جانب وزراء الحكومة الآخرين، ورئيس الوزراء، وجميع كبار المسؤولين في مختلف الأجهزة، ليست قائمة “رعاة” لجنة التحقيق، بل قائمة أولئك الذين ستحقق معهم لجنة التحقيق الحكومية التي سيتم تشكيلها” حسب البيان.
في الوقت نفسه، بدأت تقارير داخلية لـ”المؤسسة الأمنية” في الكيان الإسرائيلي تُنشر تباعاً، وتؤكد عمق الكارثة، تقرير المستشار القضائي في “حكومة” العدو نفسه -الذي أُنجز قبل أيام- أكد أن نتنياهو لم يفِ بالتزامه القانوني بإعداد “مفهوم أمن قومي” منذ العام 2018، وأن ما يسمى مجلس الأمن القومي لم يقدّم أية توصيات محدثة لـ”الحكومة” منذ 2008.
أما التقرير الأهم، فهو ما عُرف بـ”أم التحقيقات”، أعدّه اللواء الصهيوني المتقاعد “سامي ترجمان” و14 جنرالاً سابقاً، وسلّم نسخته إلى “رئيس الأركان” الجديد في الكيان الإسرائيلي، التقرير يربط الفشل مباشرةً بسنوات من “الإهمال الاستراتيجي”، ويقول إن جيش العدو و”الشاباك” فشلا في فهم تحول حركة حماس من ما أسماه “تنظيم إرهابي” إلى “جيش نظامي”، ولم يتعاملا بجدية مع معلومات “خطة أسوار أريحا”، ولم يستعدا لسيناريو اقتحام شامل للجدار. كما لم يعرف “الجيش” كيف يتعامل مع “الأصوات المختلفة” داخل أجهزته، مثل معارضة ضباط المخابرات العسكرية للتقييمات السائدة.
التقرير يضرب أيضاً أسطورة “سلاح الجو” الذي يُقدّمه نتنياهو كدرة تاج النصر، إذ يكشف أن “سلاح الجو” الإسرائيلي فشل في بناء نظام دفاع جوي فعّال على ارتفاعات منخفضة، وأن “سلاح البحرية” لم يكن مستعداً لدفع مخاطر هجوم بحري، وأن “الجبهة الشمالية” مع لبنان كانت شبه خالية في السابع من أكتوبر.
تلميحات وصلت إلى الإعلام تؤكد أن نتنياهو يخطط لتمرير قانون خاص في “الكنيست” الإسرائيلي يسمح لـ” اللجنة الحكومية” بأدوار التحقيق الرسمية، لكن دون إلزامية “المحكمة العليا”، وخلال النقاش الحكومي قال ما يسمى وزير الإعلام شلومو كاري: “ينبغي السماح للكنيست بمعالجة هذه القضية”، فردّ عليه نتنياهو: “إذن عليهم الاعتراض، نحن نتحدث عن إجماع شعبي واسع، حتى في التشريع، يمكن أن يكون هناك تقصير قاطع إذا لم نحرز تقدماً”.
لم تعد القضية مجرد خلاف حول لجنة تحقيق بقدر ما هي أزمة “شرعية” بنيوية في كيان العدو، حيث يحاول المسؤول عن أكبر كارثة أمنية في تاريخ هذا الكيان أن يتحكم في نتائج التحقيق فيها، وفي الوقت الذي تؤكد فيه التقارير العسكرية والأمنية نفسها أن الفشل كان شاملاً ومتجذراً، يصرّ “اليمين” الإسرائيلي وعتاولة الصهيونية في الكيان على تحويل التحقيق إلى أداة تستر وتبرير.
الحقيقة أن الطوفان في تداعياته لا يزال يحدث زلازل كبيرة من بينها انقسام داخلي حاد، وانعدام ثقة في المؤسسات، وشلل في اتخاذ القرار. والأهم، أن العدو الإسرائيلي يدرك أنه لا يواجه فقط مقاومة خارجية متصاعدة وأزمة وجودية وحسب، بل يواجه أيضاً تراجعاً في “شرعيته” الداخلية، واهتزازاً في أسطورة “الفهم الاستخباري” التي بنى عليها تاريخه.
نقلا عن موقع انصار الله