دول الاستكبار.. الأمن كأدَاة قمع ونهب
أفق نيوز| ربيع النقيب
الدولة التي يصنعها الاستعمارُ لا تُبنَى لحماية الناس، بل لإخضاعهم.. ليست وطنًا، بل جهازًا أمنيًّا متضخمًا، مهمته ضبط الشعوب وكسر إرادتها، لا خدمتها أَو رعايتها.. وحتى هامش الحرية الذي تُسمح به ليس حقًّا، بل خدعة أمنية، تُمنَح بقدر ما يخدمُ الاستقرار القهري، ويُسحب فورًا حين يلوح خطر الوعي أَو الرفض.
بهذا المنطق وُلدت أغلبُ دول العالم الثالث، ومنها عالمنا العربي.. دول أُنشئت لتكون مخافرَ حراسة لمصالح المستكبرين، لا بيوتًا لشعوبها.
وَإذَا تأملنا بنيتها الاقتصادية وجدنا بيروقراطيات مترهلة تتقدمها الأجهزة الأمنية، ويكفي أن نتذكر اليمن في عهد النظام السابق، حَيثُ تحولت الدولة إلى شبكة من الأجهزة المتراكبة، هدفها مراقبة المجتمع لا خدمته.
ولا تقتصر وظيفة القمع على العسكر وأجهزة الاستخبارات، بل تمتد إلى الوزارات، والمؤسّسات الخدمية، ومكاتب الدولة كافة.
فهذه القطاعات ليست بريئة، بل جزء أصيل من منظومة الإخضاع، تُنتج طبقات اجتماعية مرتهنة للراتب، خائفة من فقدانه، فتختار الصمت بدل المواجهة، كما نراه اليوم في المناطق الواقعة تحت الاحتلال السعوديّ.
كثير من الموظفين لا يُنتِجون عملًا حقيقيًّا، لكن ذلك ليس فشلًا إداريًّا، بل سياسة متعمدة.. المطلوب من هؤلاء ألا يعملوا، ألا يغيّروا، ألا يسألوا.
المطلوب منهم أن يأتوا إلى مكاتبهم، يقتلوا الوقت، ويُنتجوا الركود.
هذا الركود هو الأمن الذي يريده الطغاة، والسكون الذي تطلبه قوى الاستكبار.
ومن هنا، فَــإنَّ مشهدَ الموظف المنشغل بالقهوة، وزميله الغارق في الصحف، ليس انحرافًا عن الوظيفة العامة، بل تجسيدًا فجًّا لها.
البطالة المقنعة ليست عرضًا جانبيًّا، بل قلب الخطة.. إنها مصنع ضخم لإنتاج الاستسلام اليومي.
هذه البيروقراطيات ليست مؤسّسات عاجزة، بل أدوات حكم.
إنها مصانع للعدم، والعدم هنا سلعة استراتيجية؛ لأَنَّ بديله هو الفعل، وبديل الصمت هو الصوت، وبديل الركود هو الثورة على منظومة الاستغلال الاقتصادي والقمع السياسي التي يُراد لها أن تحكم العالم.
ولولا هذا العدم، ولولا هذا القبول القسري بالذل المعيشي، ولولا الصمت المفروض على الجوع والمهانة، لما استقر سلطان الطغاة ساعة واحدة.
الأمن لا يُصنع فقط بالبندقية، بل أَيْـضًا بالراتب، وبالتجويع المنظم، وبالسيطرة على لقمة العيش.
وحين نفهم أن دول العالم الثالث تُصدر “الأمن” بوصفِه قمعًا داخليًّا لصالح النظام العالمي، نفهم لماذا تُطالِب هذه الدول دائمًا بخفض النفقات وتقليص الوظائف.
فمراكز الاستكبار تريد أمنًا رخيصًا، أي قمعًا بأقل كلفة.
وحين ترتفع الكلفة ويضطرب الشارع، تُعلن هذه الدول “فاشلة”، ويُشرع في معاقبتها ومحاصرتها، وربما غزوها.
وهذا ما يحدث كلما خرجت الشعوب عن النص: عقوبات فحصار ثم عدوان.
هكذا تعيد قوى الاستكبار إنتاج المشهد ذاته في كُـلّ مكان.
وما يجري اليوم تجاه ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر ليس استثناء، بل تأكيدًا للقاعدة.
محاولة لكسر إرادَة شعب قرّر أن يكون حرًا، وأن يخرج من معادلة العبودية الاقتصادية والقهر السياسي.
لكنهم مخطئون؛ فهذه ليست ثورة احتجاج عابر، بل ثورة وعي، وثورة موقف، وثورة قرار.
ومن يمتلك وعيَه لا يُهزم، ومن استعاد قرارَه لا يُعاد استعمارُه، مهما تكالبت عليه قوى العدوان.