صخور تُزال بإرادة مجتمعية.. قصة صمود يمانية حولت التحديات إلى انجازات
أفق نيوز| تقرير| يحيى الربيعي
في ظل ظروف استثنائية يعيشها اليمن، تحت وطأة الحصار وشح الموارد، تبرز قصص صمود تختزل إرادة الحياة في مواجهة التحديات الطبيعية. هنا، في مديرية ملحان بمحافظة المحويت، حيث تسود التضاريس الجبلية الوعرة، تحولت المخاطر الصخرية المحدقة بالمنازل والحقول والطرق إلى كابوس يومي للأهالي، خاصة بعد الكوارث الطبيعية التي ضربت المنطقة، من هذه التحديات، وُلد برنامج “الحد من المخاطر والانهيارات الصخرية والترابية”، كمشروع إنشائي وقصة تكامل نادرة بين أهالٍ يرفضون الاستسلام، وجمعية محلية تقود التغيير، ومؤسسة تنموية تمد يد العون، وسلطة محلية تُسهِّل الطريق.
كارثة تنتظر الرد المجتمعي
شهدت مديرية ملحان في العام الماضي كوارث طبيعية أدت إلى خسائر في الأرواح والممتلكات والثروة الحيوانية والزراعية. كشفت عمليات المسح اللاحقة عن عشرات المواقع المهددة بالانهيارات الصخرية، تنتظر أي هزة أو عاصفة لتحول الخطر إلى كارثة. التقارير الرسمية حددت 69 موقعاً خطراً. لكن، ولأن الموارد الحكومية كانت شحيحة، والاستجابة الرسمية بطيئة، لم ينتظر أهالي ملحان. فبتوجيه من جمعية ملحان التعاونية الزراعية متعددة الأغراض، وبدعم من “مؤسسة بنيان التنموية” والسلطة المحلية، تحركت العجلة. لتؤكد الفلسفة التي انطلق منها المشروع: “لا يمكن مواجهة المخاطر الجسيمة إلا بروح المجتمع الواحد”.
خطة تنفيذية من القاعدة إلى القمة
لم يكن الأمر ليتم دون تضافر جهود حقيقية؛ إذ قادت جمعية ملحان التعاونية الزراعية متعددة الأغراض دفة المبادرة، منطلقة من رحم المجتمع، لتؤسس شراكة استراتيجية مع مؤسسة بنيان التنموية والسلطة المحلية في المديرية، ليتحول الثلاثي إلى قوة دفع متكاملة. وقد أفاد منسق البرنامج بمؤسسة بنيان التنموية، م. صالح القاسمي لم يبدأ المشروع بمخطط يُفرض من فوق، وإنما نبت من احتياج الناس أنفسهم. تم تشكيل لجان مجتمعية في كل عزلة ومربع سكني، بدءاً من عزلة القبلة مروراً بعزلة بني علي وبني مكار، وصولاً إلى عزلة همدان والشرقي. تحول الأهالي من متلقين للمساعدات إلى شركاء في التخطيط والتنفيذ.
وأشار القاسمي إلى أن جمعية ملحان التعاونية عملت كذراع تنفيذي فاعل، حيث تولت مهام تشكيل اللجان المجتمعية واستلام وتخزين المواد وتوزيعها ومتابعة العمل ميدانياً. كما لعبت مؤسسة بنيان دور الداعم والممول الأساسي، إذ قمنا بعد نجاح المرحلة الأولى، بتوسيع نطاق العمل في المرحلة الثانية (أكتوبر-نوفمبر 2025) ليصبح أكثر تركيزاً وعمقاً، حيث شملت الخطة معالجة 69 موقعاً صخرياً مهدداً، تم دعم 38 مبادرة مجتمعية بشكل مباشر. وتضمنت آلية العمل الاحترافية مسحاً ميدانياً دقيقاً لتحديد المواقع الخطرة بالتعاون مع خبراء محليين، وصولاً إلى تشكيل 42 لجنة مجتمعية موزعة على ست عزل رئيسية هي (القبلة، بني مكار، بني علي، باحش، الشرقي، همدان).
ويضيف أ. عبده جيلان، مسئول المشاريع بالجمعية: “قمنا بتقسيم المديرية إلى مربعات عمل، وعيّنا منسقاً لكل مربع من أبناء المنطقة نفسها. هم يعرفون الصخور التي تهدد منازلهم، وهم الأقدر على حشد أهاليهم للعمل”.
وأشار جيلان إلى أن جمعية ملحان قامت بدور القلب النابض للمشروع، وتحديداً في إدارة العمليات الميدانية، وتوزيع المواد، والمتابعة الفنية عبر خبراء ومتابعين ميدانيين مثل “عبد الصمد الكياه” في مربع القبلة، و”ناصر عبده” في مربع همدان. أما السلطة المحلية، فسهرت على توفير التسهيلات الأمنية والإدارية، وتكليف الخبراء لتحديد المواقع القابلة للإزالة بأمان.
شراكة فريدة.. والإنجازات بالأرقام
وبحسب محمد العراسي، أحد المتطوعين في إدارة البرنامج، فقد لعبت مؤسسة بنيان التنموية دور الشريك الداعم، حيث وفرت المواد الأساسية اللازمة لإزالة الصخور: المحروقات (البنزين) للمعدات، والزيت، والإسمنت، وكميات من “الألغام” و”البارود” للتفجيرات الموجهة في المواقع المعقدة.
ويشير العراسي إلى أن العمل الميداني امتد من 5 أكتوبر 2025 إلى 30 نوفمبر 2025. خلال هذه الفترة، تحولت الأرقام إلى شواهد حية على العمل الدؤوب، حيث تمت معالجة 38 مبادرة مجتمعية (موقع خطر) بشكل كامل، وتم صرف المستحقات المادية لها. وبلغ عدد المبادرات التي تمت متابعتها وإشراف الجمعية عليها 42 مبادرة. ساهم المجتمع مباشرة في إنجاز 4 مبادرات باستخدام موارده الذاتية قبل وصول الدعم، فيما تم دعم 14 مبادرة معتمدة، وتبقى 12 مبادرة قيد الدراسة لتعقيدها الفني. وتم صرف 120 نخسة إسمنت، و1860 لتر محروقات، و86 علبة زيت، و61 حبة من الألغام، و60 حبة بارود للمبادرات المنفذة.
مؤكداً “لكن الأهم من الأرقام، هي قصص المواقع التي تحولت من تهديد إلى أمان. كموقع “شرقي الدوية المحجر” في عزلة القبلة، الذي أُنجز بنسبة 100%، وموقع “الزجمة” و”الجردة العملاء” وغيرها، والتي تروي كل واحدة منها قصة يوم عمل طويل تحت الشمس، من تكسير يدوي وحمل للصخور وبناء الجدران الاستنادية”.
التحديات.. ومعادلة الصمود
وعن التحديات ومعادلة الصمود والشراكة التعاونية، يتحدث المهندس صالح القاسمي منسق البرنامج بمؤسسة بنيان بالقول: “لم يكن الطريق معبداً. واجه المشروع تحديات جمة، أبرزها شح الإمكانيات الفنية المتخصصة، لاسيما وأن بعض الصخور الضخمة المعقدة تتطلب فرقاً جيولوجية ومعدات ثقيلة غير متوفرة. رُفعت طلبات للجهات المختصة، لكن التدخل تأخر. ثم نقص المواد، فرغم الدعم، ظل حجم المواد أقل من الاحتياج الحقيقي للمواقع الكثيرة. يقول أحد المتابعين الميدانيين: “كنا نوزع المحروقات باللترات، وكل لتر كان يحسب بدقة”. وصعوبة الوصول، نظراً لما امتازت به مواقع العمل من وعورة التضاريس جعلت نقل المواد والعمال إلى بعض المواقع مغامرة بحد ذاتها. وأخيراً الاعتماد على الجهد البدني، حيث كان التكسير اليدوي هو السائد في معظم المواقع، مما استنزف طاقات كبيرة”.
واستدرك القاسمي قائلاً: “لكن المعادلة تغلبت على كل ذلك تمثلت في إرادة المجتمع + الدعم المنظم + التخطيط المحلي = طاقة لا تنضب. تحولت المساهمات المجتمعية من عمل تكسير وبناء إلى توفير أدوات بسيطة، وأحياناً إلى تقديم الطعام للعاملين. روح التطوع كانت الوقود الحقيقي”.
التكاليف.. الجهد بأقل الموارد
وتكشف ورقة التكاليف، التي أوردها تقرير البرنامج، عن نموذج فريد في الكفاءة. بلغت التكلفة التقديرية الإجمالية 24 مليون ريال يمني. تم تمويل هذا المبلغ من خلال ثلاثية مساهمة المجتمع (عبر العمل التطوعي والقيمة المضافة): 5 ملايين ريال، ومساهمة الجمعية (الإدارة والتنسيق والمتابعة): 2 مليون ريال، ودعم مؤسسة بنيان التنموية (المواد الأساسية): 15 مليون ريال.
المعادلة التي أوضحها تقرير المشروع أن القيمة الحقيقية كانت في الجهد البشري، الذي شكل نحو 30% من التكلفة التقديرية، وهو جهد لم يكن ليتحقق بمال في ظل هذه الظروف. ناهيك عن أن كل لتر بنزين وكل كيس إسمنت كان يُستخدم بأقصى درجات الكفاءة.
الصخور سقطت.. والإرادة صعدت
مع نهاية المرحلة الثانية، يؤكد مدير مديرية ملحان، غمدان العزكي: “لم تُزل كل الصخور، ولكن الأهم أن سُلّمت رسالة واضحة: مجتمع ملحان، رغم الحصار وشح الموارد، قادر على تنظيم نفسه، والتعاون مع شركائه، ومواجهة التحديات الطبيعية بصبر وإصرار”.
وفي إشادة منه بجهود الشراكة بين القائمين على البرنامج، مؤكداً أن ما حدث في ملحان هو أكثر من برنامج إغاثي؛ إنه نموذج مصغر لكيفية تحويل “الأزمة” إلى “فرصة” لتعزيز التماسك الاجتماعي وبناء قدرات مجتمعية إدارية وتنظيمية، مؤكداً “لقد أثبت الأهالي، بدعم من جمعيتهم ومؤسسة بنيان والسلطة المحلية، أن أكبر الصخور يمكن أن تتحطم أمام إرادة جماعية منظمة. القصة هنا لم تتحدث عن إزالة الصخور المهددة، بقدر ما أنها تتحدث عن إزالة صخور اليأس وإعادة بناء ثقة الناس بقدرتهم على الصمود والبناء، حتى في أحلك الظروف”.
مؤكداً “على الرغم من الإنجازات، واجه المشروع معوقات كبرى، أبرزها النقص الحاد في الدعم الهندسي المتخصص للمواقع الـ 14 المعقدة التي تحتاج فرقاً جيولوجية، إلى جانب شح المواد الذي جعل الاعتماد كلياً على توريدات مؤسسة بنيان، بالإضافة إلى صعوبة الوصول بسبب التضاريس الجبلية الوعرة التي تعيق نقل المعدات والمواد، كما يمثل محدودية التمويل تحدياً جوهرياً. لكن المجتمع أظهر إبداعاً حقيقياً في التغلب على هذه التحديات، فاعتمد نظام المربعات الجغرافية بإشراف منسقين محليين، ورفع منسوب العمل التطوعي بمساهمات عينية بلغت قيمتها 5 ملايين ريال، وتكييف الخطط بمرونة لتتناسب مع أولويات الخطر وطبيعة الصخور”.
روح التكافل في ملحان
يمثل المجتمع المحلي في ملحان المحرك الفعلي وراء هذا الإنجاز، حيث تجسدت قيَم التكافل والمسؤولية المشتركة. فنماذج مثل عبد الله عثمان جيلان (رئيس لجنة القبلة) الذي قاد سبع مبادرات بنجاح، وحسن محمد عبده علي (بني مكار) الذي أنجز مبادرة معقدة، تُعد شواهد على الإرادة القوية. كما كان لإسهام النساء في الإسناد عبر التوعية وتوفير الغذاء للعاملين دور لا يمكن إغفاله. لقد سادت ثقافة التكافل، حيث جرى توزيع المواد بناءً على حجم الخطر لا الأعداد، مع التزام تام بمبدأ الشفافية عبر محاضر استلام وصرف موثقة بالصور والتوقيعات.
وختاماً، فإن مشروع ملحان لإزالة الصخور، هو بحسب ما فاضت به مشاعر المواطنين وخاصة المستفيدين من المشروع، تجسيد حي لـ “الصمود اليماني” في مواجهة الكوارث تحت الحصار، ونموذج رائد لـ “الشراكة الفاعلة” بين الجمعية والمؤسسة والسلطة والمجتمع، ومدرسة عملية في “إدارة الأزمات”. وبما أن القرآن يذكر: “وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ”، فإن من حجارة ملحان ما تفجر منه إرادة وإيماناً وتعاوناً، ليثبت أهالي المديرية أن الإرادة المجتمعية تتفوق في صلابتها على صخور الجبال وقسوة ظروف الحصار.
يمانيون